اكتسبت فكرة "الاستقلال الاستراتيجي" شعبية هائلة بين الأوساط المؤثرة في أوروبا، خلال الفترة الأخيرة، وكان المقصود منها توجه القارة العجوز نحو المزيد من الاعتماد على الذات، من ناحية لتجنب تداعيات التعريفات الأميركية، ومن ناحية أخرى للابتعاد عن الصين، بعد أزمة سلاسل الإمداد التي عانى العالم منها، على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة.
وعانت أوروبا، بشكل خاص، في أعقاب جائحة كوفيد-19، وما سببته من تعطل في سلاسل الإمداد، ومن بعدها الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، ما دعاها لإعادة تشكيل استراتيجيتها الاقتصادية بالكامل، ليصبح مصطلح "التخلص من الأخطار" هو مفتاح السياسة الاقتصادية لصناع القرار الأوروبيين. وبدلًا من السعي لتجنب التعريفات الأميركية، ركزت بروكسل جهودها نحو تقليل الاعتماد الاقتصادي على الصين.
وتختلف الخطط الأوروبية كثيرًا عن خطط الولايات المتحدة لفك الارتباط بالصين، حيث كانت وجهات النظر الأوروبية بشأن بكين أقل تشددًا، ما جعل الأمر أكثر صعوبة، وأبطأ في تنفيذه.
ويرى كثير من المحللين أن الاعتماد المفرط على الصين يمثل مشكلة ألمانية في الأساس، لا مشكلة أوروبية، حيث تمثل صادرات ألمانيا من السلع والخدمات إلى الصين أكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي الألماني، وهو أعلى معدل في الاتحاد الأوروبي، وأكثر من ضعف المستويات المسجلة في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.
وتتمتع الشركات الألمانية أيضاً بحضور ضخم في الصين، حيث تمثل إيراداتها السنوية نسبة 6% من الناتج المحلي الإجمالي الألماني، أي نحو ضعف متوسط نظيرتها في أكبر ستة اقتصادات في أوروبا. أما عن صناعة السيارات والمواد الكيميائية، على وجه الخصوص، فهي موجهة بشكل خاص للصين، ما يمنح بكين نفوذاً للانتقام من خطط الاتحاد الأوروبي للابتعاد عنها، حيث يمكنها على سبيل المثال مقاطعة الشركات الألمانية.
وتساعد درجات الاعتماد المتباينة على الصين في تفسير السبب وراء انقسام وجهات النظر في مختلف أنحاء أوروبا. فمن ناحية، لا تعارض برلين وباريس إقامة علاقات أوثق مع الصين، كما أظهرت الزيارتان الأخيرتان للمستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بكين. ومن ناحية أخرى، كانت معظم دول أوروبا الشرقية متشددة منذ فترة طويلة تجاه الصين، ولم يؤد دعم بكين الضمني لغزو موسكو لأوكرانيا إلا إلى تشديد موقفها.
ولا يكاد يوجد أي موضوع يوحد الأوروبيين، ولكن في غياب الإجماع بشأن الصين، فإن أي بداية لتقليل أخطار الاعتماد عليها ستكون صعبة.
وتعد خسارة الاتحاد الأوروبي نتيجة لتقليص اعتمادها على الصين أكبر من خسارة الولايات المتحدة. فرغم المخاطر، تظل الشركات الصينية أكبر موردي السلع إلى أوروبا، حيث سيطرت على نحو 20% من الواردات خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2023، كما استورد الاتحاد الأوروبي أكثر من أربعة أخماس بطاريات الليثيوم أيون من الصين هذا العام. وعلى النقيض من ذلك، حولت الولايات المتحدة حصة لا يستهان بها من تجارتها إلى المكسيك وأوروبا.
وتبقى الصورة الاستثمارية أكثر وضوحاً، حيث منحت التدفقات الاستثمارية المرتفعة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين للشركات الصينية وجودًا قويًا في البنية التحتية في أوروبا، بما في ذلك الموانئ (في 10 دول على الأقل في الاتحاد الأوروبي)، وشبكات الطاقة (لا سيما في البرتغال وإيطاليا واليونان)، وكابلات الاتصالات تحت سطح البحر (مثل كابل السلام الذي يربط باكستان بفرنسا).
وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، انخفضت الاستثمارات الصينية في أوروبا، مع تركيز الشركات الصينية اهتمامها على المشاريع عالية الجودة، وخاصة في مجال التكنولوجيا النظيفة. ومع ذلك، ظلت تدفقات الأموال الصينية ثابتة، عند مستوى 26 مليار دولار في الفترة من 2020 إلى 2022، مقارنة بلا شيء تقريبًا في الولايات المتحدة.
وتبقى قدرة أوروبا على إشراك الشركات في تنفيذ سياساتها محدودة، ولكن تنفيذ هذه الخطط سوف يعتمد على مدى تقبل الشركات الخاصة لها وهو أمر لا يبدو سهلاً في الوقت الحالي.
ويتمثل الخيار الأول لإقناع الشركات بالتنويع بعيداً عن الصين ونقل الإنتاج إلى أوروبا في تقديم الحوافز لها، سواء كانت حوافز مالية أو برامج استثمار عام، ومع ذلك فإن أغلب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لا تتمتع حالياً بالحيز المالي اللازم لتنفيذ مثل هذه السياسات.
وفي غياب تلك الجزرة، فإن اللجوء إلى العصا سيكون الخيار الآخر، بمعاقبة الشركات التي تتعامل مع الصين بشكل كبير، من خلال خفض الدعم العام أو تقييد ضمانات ائتمان التصدير، لكن هذه لن تكون خطوة عظيمة، فمعاقبة شركات الاتحاد الأوروبي بسبب قيامها بالكثير من الأعمال مع الصين من شأنها أن تضعف اقتصاد أوروبا، بل وقد تقنع الشركات بمغادرة الاتحاد الأوروبي، وهو خطر لا يمكن الاستهانة به.
وعلاوة على ذلك، فمن المرجح أن يتم تنفيذ مثل هذه السياسات على مستوى الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، ما سيؤدي إلى خلق تشوهات بين الاقتصادات الأوروبية، وبالتالي تحفيز الشركات على الانتقال إلى دول الاتحاد الأوروبي الأكثر تساهلاً.
وبالنسبة للعديد من السلع الحيوية، فإن إنشاء سلاسل التوريد الأوروبية يعد أمراً غير واقعي، حيث تسيطر الشركات الأميركية على التكنولوجيا اللازمة لبناء أشباه الموصلات المتقدمة، مما يمنح الولايات المتحدة ورقة رابحة ضخمة لنقل سلاسل توريد أشباه الموصلات إلى الأراضي الأميركية، ما يعني اضطرار أوروبا للاستمرار في الاعتماد على الولايات المتحدة في هذا المجال. وإذا كانت عملية تقليص الأخطار لا تقتصر على الصين فحسب، بل إنها تتعلق ببناء الاكتفاء الذاتي الأوروبي في القطاعات الحيوية، فإن أشباه الموصلات قد لا تكون المكان الأفضل للبدء.
وحتى خارج قطاع التكنولوجيا الفائقة، تبدو سلاسل التوريد الأوروبية الجديدة للسلع الحيوية الأخرى بعيدة المنال. وعلى رأس المجالات ذات الأولوية الأخرى التي يرغب الاتحاد الأوروبي في التخلص من الأخطار فيها تأتي المواد الخام الهامة، وهي مجموعة من المعادن التي ستكون ضرورية للتحول نحو الطاقة النظيفة.
ووضعت بروكسل لنفسها هدفاً يتمثل في إنتاج 10% وتكرير 50% من استهلاكها السنوي من المواد الخام الحيوية بحلول عام 2030، ونظراً لما تسببه هذه الأنشطة من تلوث، فإن شركات استخراج وتجهيز السلع الأساسية تعرف أن محاولة زيادة وجودها في أوروبا أمر غير واقعي، وأن أي خطط في هذا الاتجاه ستواجه ردة فعل شعبية شديدة.
وتعتبر المفوضية الأوروبية أن تعميق العلاقات التجارية مع دول جنوب شرق آسيا هو وسيلة أكيدة لتقليل الاعتماد الأوروبي على الصين، وهو ما ثبت نجاحه خلال السنوات الأخيرة، على أقل تقدير، وتؤيده أيضاً التجربة الأميركية في السعي نحو الهدف نفسه.