يخضع عزم الولايات المتحدة الأميركية على استعادة النفوذ المفقود في أفريقيا للاختبار، هذه الأيام، إذ يجري العشرات من قادة ومسؤولي القارة محادثات مع نظرائهم الأميركيين على مدى ثلاثة أيام في واشنطن في قمة ينظر إليها باهتمام بالغ، لاسيما أنها تأتي في إطار محاولات غربية للحد من تمدد الصين في القارة السمراء، بعدما اتسعت رقعة نفوذها عبر مشروعات "الحزام والطريق" واسعة المدى.
وتأتي القمة الأميركية الأفريقية في لحظة معقدة، إذ جاءت بعد أيام من القمة الصينية ـ العربية، التي استضافتها المملكة العربية السعودية، والتي يرى محللون أنها كانت بمثابة ثلاث قمم في قمة واحدة، حيث شملت جغرافياً دولاً عربية وخليجية وأفريقية في آن واحد.
وتؤشر التحركات الآتية من الشرق والغرب منذ بداية العام الجاري، إلى مدى الحشد تجاه أفريقيا، إذ استهلت الصين العام بزيارات مكوكية إلى العديد من البلدان أشبه بقمم منفردة بعد حملة غربية واسعة اتهمت بكين بإغراق الدول الأفريقية في الديون، لتستضيف بعدها بروكسل في فبراير/ شباط الماضي قمة أوروبية مع قادة 40 دولة أفريقية، بينما تصل الرحلة هذه المرة إلى واشنطن حيث يأمل الأميركيون في المضي قدماً فيما يصفونها باستراتيجية "أفريقيا الجديدة" التي جرى الكشف عنها الصيف الماضي وتهدف لمواجهة الوجود الصيني بشكل خاص ومن ورائه الروسي.
واشنطن تتخوف من تقلص حضورها
وكشفت بيانات صادرة حديثاً عن خدمة أبحاث الكونغرس، أن الصين أبرمت في عام 2020 وحده اتفاقيات بقيمة 735 مليار دولار مع 623 شركة في أفريقيا، فيما بلغت قيمة 800 صفقة تجارية واستثمارية مع 45 دولة أفريقية أكثر من 50 مليار دولار، بينما استثمرت الولايات المتحدة 22 مليار دولار في 80 شركة فقط في القارة خلال نفس الفترة.
الصين أبرمت في 2020 اتفاقيات بقيمة 735 مليار دولار مع 623 شركة في أفريقيا، وبلغت قيمة 800 صفقة مع 45 دولة أكثر من 50 مليار دولار
وتتخوف واشنطن من تقلص حضورها مع اتساع نطاق الصعوبات المالية والاقتصادية التي تشهدها معظم الدول الأفريقية في أعقاب موجات التضخم العالمية بسبب تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا واستمرار واشنطن في رفع أسعار الفائدة التي أججت من سطوة الدولار وأثقلت الكثير من الدول بفواتير استيراد باهظة وتزايد أعباء الديون.
ودفعت هذه الأوضاع الصعبة، العديد من بلدان القارة السمراء إلى اللجوء إلى الصين وروسيا، ما زاد من مخاوف الولايات المتحدة من ابتعادها أكثر عن المشهد واستفراد بكين وموسكو بأفريقيا في ظل تحركات فعلية من جانب الصين لإسقاط بعض ديونها لدى الدول الأفريقية وتعزيز استثماراتها هناك، بجانب تحركات روسية لمنح صفقات حبوب تفضيلية لبعض الدول.
وحاولت الولايات المتحدة التقليل من شأن النفوذ الصيني من خلال تصريحات المسؤولين عن القمة المنعقدة مع قادة الدول الأفريقية والتي تستمر ثلاثة أيام حتى غداً الخميس، لكن التجارة والاستثمار التي طالما أبعد تقلصهما واشنطن عن أفريقيا خلال السنوات الماضي، جاءت في صدارة الأولويات في هذه القمة.
وتناقش القمة القانون الأميركي الخاص ببرنامج النمو والفرص في أفريقيا، الذي تنتهي صلاحيته في عام 2025، والذي يمنح ما يقرب من 7 آلاف منتج في نحو ثلاثين دولة أفريقية، إعفاءات من الرسوم الجمركية من جانب الولايات أكبر اقتصاد في العالم.
وحتى الآن، لم يتم التوصل إلى تحديد ما الذي يمكن أن يحدث بعد انتهاء صلاحية البرنامج، ومن هي الدول التي يمكن أن يجري التجديد لها مستقبلاً.
قالت الممثلة التجارية الأميركية، كاثرين تاي، خلال مناسبة نظمها موقع "سيمافور" قبل يوم واحد من بدء القمة، وفق وكالة بلومبيرغ الأميركية: "نجد دائماً أن هناك فرصاً لتحسين البرنامج. قد يكون هناك استيعاب واستخدام أفضل له".
والعديد من الدول الأفريقية معرضة لخطر الاستبعاد من أي صفقة تفضيلية مع الولايات المتحدة في ظل توترات مع واشنطن خلال الفترة الماضية، بينما استغلت الصين هذا التوتر لتملأ الفراغ بصفقات مغرية، فإثيوبيا التي تحظى بأهمية في منطقة القرن الأفريقية التي خرجت من حرب أهلية استمرت عامين، جرى في العام الماضي، تعليق استفادتها من برنامج النمو والفرص في أفريقيا المعروف اختصاراً بقانون "أغوا" وذلك بسبب اتهام قواتها في التورط في انتهاكات لحقوق الإنسان في إقليم يتغراي شمال إثيوبيا.
العديد من الدول الأفريقية معرضة لخطر الاستبعاد من أي صفقة تفضيلية مع الولايات المتحدة في ظل توترات مع واشنطن خلال الفترة الماضية
قالت سارة بيانكي، نائبة الممثل التجاري الأميركي لآسيا وأفريقيا، في بيان قبيل انعقاد القمة، إن وزراء التجارة ستتاح لهم الفرصة للتحدث مباشرة مع أعضاء الكونغرس المسؤولين عن التشريع بشأن قانون "أغوا"، حول ما يجب تحسينه، وكيفية المضي قدماً.
الأمن الغذائي والبنية التحتية
ووصل حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وأفريقيا جنوب الصحراء، إلى 44.9 مليار دولار في العام الماضي، مرتفعاً بنسبة 22% مقارنة بعام 2019، فيما تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة بنحو 5.3%، ليصل بذلك إلى 30.3 مليار دولار في 2021، وفق بيانات أوردتها بلومبيرغ.
تناقش القمة أيضاً موضوعات الأمن الغذائي، وأزمة المناخ، وتشجيع الاستثمار في البنية التحتية، والصحة، ومشروعات الطاقة المتجددة. من المرتقب أيضاً إعلان بايدن عن دعمه حصول الاتحاد الأفريقي على عضوية دائمة في مجموعة الدول العشرين خلال القمة.
قالت بيانكي، إن القمة "تعمل بشكل حثيث على تعزيز الولايات المتحدة وأفريقيا للعلاقات الاقتصادية بصفة أساسية.. وسيكون هذا محور التركيز الرئيسي".
ويوم الاثنين الماضي، أعلن البيت الأبيض، التزام الولايات المتحدة بتقديم 55 مليار دولار لأفريقيا على مدى السنوات الثلاث المقبلة، إذ قال مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان، إن واشنطن "ستضع الموارد على الطاولة" خلال القمة، فيما قال جاد ديفيرمونت، مسؤول أفريقيا في مجلس الأمن القومي، إن "هذا العقد سيكون حاسماً. والسنوات القادمة ستحدد الطريقة التي سيعاد فيها تنظيم العالم" مؤكدا أن إدارة بايدن "تؤمن بقوة أن أفريقيا سيكون لديها صوت حاسم".
لكن طريق أميركا لاستعادة النفوذ في أفريقيا لا يبدو معبدا، فالصين طوقت بالفعل العديد من المسارات عبر "حزامها" الممتد على طريق من حرير.
وفي دراسة لشركة الاستشارات العالمية "ماكنزي" فإن أكثر من ألف شركة صينية تعمل حالياً في أفريقيا، فيما تتحدث مصادر أخرى عن 2500 شركة، 90% منها شركات خاصة، متوقعة أن تصل قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من أفريقيا بحلول عام 2025 إلى 440 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 144% ع مستويات 2021.
الحصول على الموارد النفطية والمعدنية
وأظهرت الدراسة ذاتها في المقابل، أن ما يهم الصين حقيقة من وراء الاستثمارات المالية التي تقوم بها في أفريقيا، هو الحصول على الموارد النفطية والمعدنية التي تملكها بعض الدول الأفريقية، كنيجيريا والجزائر والكونغو وغيرها.
كما أشارت تقارير إلى شراء الصين أراضيَ زراعية شاسعة في دول أفريقية بهدف استثمارها لإطعام سكانها الذين سيتجاوزون 1.5 مليار شخص بحلول عام 2025.
دراسة: ما يهم الصين حقيقة من وراء الاستثمارات المالية التي تقوم بها في أفريقيا، هو الحصول على الموارد النفطية والمعدنية التي تملكها بعض الدول الأفريقية
وتنبهت الولايات المتحدة لأمن المعادن مؤخراً وتحديداً منذ تهديد الصين بحظر تصدير المعادن النادرة إليها في العام 2018 عقب تصاعد الحرب التجارية بين واشنطن وبكين وفرض إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب رسوماً جمركية واسعة على الصادرات الصينية لبلاده والتي ما تزال معظمها مستمرة حتى الآن رغم الاتفاق على تهدئة الحرب التجارية في نهاية حقبة ترامب.
ومنذ قدوم بايدن للسلطة أعطى قضية تأمين احتياجات المعادن النادرة التي تدخل في صناعات حيوية أولوية وتعامل معها على أنها أحد محددات الأمن القومي.
وعقب اندلاع حرب أوكرانيا ضغطت أميركا مرة أخرى على الصين لمساندة الموقف الغربي ضد روسيا فواجهتها بكين بورقة توريد المعادن مرة أخرى، وهو ما دفع الولايات المتحدة نحو العودة بثقلها إلى أفريقيا لإزاحة الصين التي تستحوذ على نحو 80% من إمدادات المعادن النادرة على مستوى العالم.
بدورها تنفي الصين مراراً الاتهامات الأميركية والغربية الموجهة إليها بالاستحواذ على الموارد الطبيعية في أفريقيا وإغراق البلدان في الديون عبر مشروعات تفيد الصين أكثر.
وكانت إدارة بايدن حذرت، في استراتيجيتها الجديدة تجاه منطقة أفريقيا جنوب الصحراء والتي كشفت عنها في أغسطس/ آب الماضي، من أن الصين التي عشرات ضخت مليارات الدولارات في مشاريع الطاقة الأفريقية والبنية التحتية والمشاريع الأخرى، ترى المنطقة كساحة تستطيع بكين من خلالها "تحدي النظام الدولي القائم على القواعد، وتعزيز مصالحها الجيوسياسية والتجارية الضيقة، وتقويض الشفافية والانفتاح".
لكن وزير الخارجية الصيني وانغ يي، قال خلال زيارة إلى كينيا في يناير/كانون الثاني الماضي، إن "بكين لا توقع أفريقيا في فخّ الديون"، مضيفا للصحافيين أن القروض المرتبطة بهذه المشاريع تمثل "منفعة متبادلة".
وفي نهاية أغسطس/ آب الماضي، كشفت الصين عن أنها تنازلت عن 23 قرضاً بدون فوائد مقدمة إلى 17 دولة أفريقية، كما أعادت توجيه 10 مليارات دولار من احتياطياتها لدى صندوق النقد الدولي إلى العديد من الدول في القارة السمراء، وذلك بحسب منشور على موقع وزارة الخارجية الصينية على الإنترنت.
بالإضافة إلى ذلك أعلنت عن موافقتها هذا العام على دخول 98% من الصادرات من 12 دولة أفريقية بدون رسوم جمركية وقدمت مساعدات غذائية طارئة لجيبوتي وإثيوبيا والصومال وإريتريا.
ولا يبدو أن الصين ستتراجع بسهولة أمام الضغط الأميركي، عن الرقعة الواسعة من النفوذ التي استحوذت عليها في أفريقيا. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، توقع مركز أبحاث الاقتصاد والأعمال، الذي يتخذ من لندن مقراً له، أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم في عام 2030، لتتخطى الولايات المتحدة الأميركية.
لا يبدو أن الصين ستتراجع بسهولة أمام الضغط الأميركي، عن الرقعة الواسعة من النفوذ التي استحوذت عليها في أفريقيا
وأظهر التقرير السنوي للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين وأفريقيا الصادر نهاية سبتمبر/أيلول 2021، أن قيمة التجارة الثنائية بين الصين وأفريقيا بلغت 187 مليار دولار في عام 2020، على الرغم من الصعوبات التي فرضتها جائحة فيروس كورونا، لتحافظ الصين على ريادتها كأفضل شريك تجاري لأفريقيا، وذلك على امتداد 12 سنة متتالية.
أضرار سطوة الدولار
وتضم مبادرة "الحزام والطريق" 41 من أصل 55 دولة أفريقية، معظمها يقع على الساحل الشرقي المطل على المحيط الهندي، ولعل أبرزها: إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا الواقعة في منطقة القرن الأفريقي، بالإضافة إلى جميع دول شمال القارة.
وفي مقابل التحركات الأميركية لتعزيز الوجود في أفريقيا، يشير محللون إلى أنه كما تنظر الكثير من الدول الأفريقية بتوجس تجاه الوجود الصيني، فإنها سئمت أيضا السياسات الأميركية التي تضعف الاقتصادات.
فمعظم دول القارة السمراء تئن تحت سطوة الدولار القوي وتزايد فاتورة استيرادها للسلع الأساسية ومواجهة أعباء الديون، إذ باتت الولايات المتحدة تستخدم سلاح رفع أسعار الفائدة ليس فقط في مواجهة التضخم الداخلي وإنما في إضعاف العشرات من الاقتصادات النامية وزيادة هشاشتها ما يجعلها أكثر سهولة في العودة إلى منطقة النفوذ الأميركي من جديد والابتعاد عن الصين رغم المشروعات والشراكات الضخمة التي جرى إبرامها على طريق الحرير الذي يجري توسيع مداه منذ سنوات.