تكتظ أسواق قطاع غزة بالأطفال العاملين في مهنة بيع البضائع واللوازم المُختلفة، في مُحاولة منهم لإعالة أُسرهم التي فقدت الأب أو الأشقاء الكبار خلال العدوان الإسرائيلي الوحشي المُتواصل مُنذ أربعة أشهر.
وتحوّلت مُهِمة توفير لُقمة العيش من الكِبار إلى الصِغار قسراً، فقد اضطروا للعمل في مِهن شاقة، تفوق قدرة أعمارهم الصغيرة، بهدف توفير مُتطلبات أُسرهم، التي تفتقد لأي مُعيل، أو مصدر دخل ثابت، يُمَكّنها من العيش، في ظل الظروف المأساوية التي تسبب بها العدوان الإسرائيلي المُتواصل مُنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
يواجِه الأطفال العاملون في مجال بيع العديد من الأدوات، أو الأطعِمة، جُملة من التحديات، التي تبدأ بخطر التحرك بفعل القصف الإسرائيلي المتواصل في مُختلف المناطق والمُحافظات، وحالة الاستهداف المُباشر للمدنيين الفلسطينيين (نصفهم من الأطفال)، مروراً بصعوبة التنقل بفعل حالة الازدحام، وانعدام وسائل التنقل، بسبب نفاد الوقود اللازم لحركة العربات، نتيجة الإغلاق الإسرائيلي للمعابر، وصولًا إلى البرد القارس، وموجات الأمطار التي يواجهها الأطفال طيلة فترة عملهم.
ويزيد العدوان الإسرائيلي من صعوبة الأوضاع الاقتصادية للأُسر الفلسطينية في قطاع غزة، والتي تُعاني بالأساس من ارتفاع نسب البطالة، والتي تجاوزت نسبة 65%، والفقر الذي تخطى 70%، في ظل اعتماد قرابة 80% من الأُسر على الإعانات الطارئة، والمُساعدات الإنسانية، والمُخصصات المالية، حيث فاقم العدوان تلك النسب جراء إغلاق المعابر، وشل الحياة التجارية، واستهداف المُنشآت الصناعية، والمحال والشركات والمرافق الاقتصادية.
يقول الطفل عُدي بشير (12 عاماً)، الذي استشهد والده واثنان من أشقائه، فيما أُصيبت والدته بجراح مُتوسطة في رأسها جراء قصف مُلاصِق لبيت اللجوء الذي كانوا يحتمون به، إنه بدأ في بيع المشروبات الساخِنة مُنذ الأيام الأولى لتهجيره برفقة والدته وعائلة أبيه نحو مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، بعد التهديدات الإسرائيلية المُتكررة بضرورة خروج مُحافظتي غزة والشمال، نحو جنوبي وادي غزة.
يلفت بشير في حديث مع "العربي الجديد" إلى أنه يتشارك مع والدته، والتي ما زالت تُعاني نتيجة الإصابة، في تسخين الماء على الحطب، وتجهيز الأوعية المُخصصة، للشاي والقهوة، ومن ثم الانطلاق مع ساعات الفجر الأولى نحو طوابير المواطنين المُصطَفين أمام المخابِز، أو نقاط توزيع الماء، أو المُساعدات الإنسانية، أو لشراء بعض المُستلزمات المفقودة. ويقول "أتوجه فجرا نحو تلك الطوابير، وبقية النهار أقضيه في التجول داخل السوق".
وعلى الرغم من حالة الإرهاق الشديد التي تُصيب الطفل بشير، جراء المشي المتواصل، والاستيقاظ المُبكر، والخروج في أجواء تمتزج بالخطر والبرودة الشديدة، إلا أنه يرى أن ذلك واجب عليه، خاصة بعد أن أصبح "رجُل البيت" الذي تعتمد عليه والدته وشقيقته الصغيرة في توفير قوت اليوم.
تختلف المهن التي يعمل بها الأطفال إذ يحمِل بعضهم "ترامِس" و"بكارِج" لبيع القهوة والشاي، والبعض الآخر يعمل في بيع الخضار، أو الأوراق الخضراء، كالجرجير، والبقدونس، والجرادة، علاوة على أصناف المُخللات، والخبز الطابون الجاهز، وخبز الشراك، والحلويات، والبهارات، والعصائر، والبقوليات، والألعاب، والملابس الجديدة أو المُستعملة، والأدوات المنزلية، وغيرها من المأكولات الشعبية، والمُستلزمات اليومية.
ويعمل الطفل أيوب عِماد (14 عاماً) في بيع الملابس المستعملة، التي يشتريها بأسعار منخفضة، أو يحصل عليها مجاناً ممن لم يعودوا بحاجتها. ويقول لـ "العربي الجديد" إنه اتجه للعمل بغرض إعالة أسرته، بعد أن فُقِد والده إثر استهداف قريب لمنزلهم في مدينة غزة، استشهد على إثره عمه وابن عمه، فيما لم يُعرف مصير والده حتى اللحظة. يوضح أيوب الذي بدا مُتعباً بعد نقله كيساً مُحمّلاً بالملابس على عربة نقل يدوية، أن عمله لا يقتصر على بيع صنف مُحدد من الملابس، إذ يبيع ما يتوفر معه من ملابس للنساء، أو الأطفال، أو الرِجال، كما يبيع بعض أصناف الأغطية، أو الأقمِشة، والتي يشتريها البعض لتغطية الخِيام.
لا يُنكر الطفل أيوب حالة الإرهاق التي تصيبه يومياً، بسبب الاستيقاظ المُبكر، في ظل الأجواء شديدة البرودة، والمُتزامنة مع أصوات القصف والانفجارات، إلا أنه يؤكد في الوقت ذاته على أهمية عمله لتوفير مُتطلبات أُسرته، ويقول: "كان أبي يوفر لنا كُل شيء، لا يُمكنني فعل ذلك، لكنني أُحاوِل".
وتلجأ العديد من الأسر إلى بيع بعض الأصناف من المُساعدات الإنسانية، أو الغذائية، واستبدالها بأصناف أخرى تحتاجها الأسرة، وذلك عن طريق بسطات صغيرة يتم فرشها أمام خِيام اللجوء، لبيع أصناف البسكويت، أو الحلاوة الطحينية، أو المُعلبات بأصنافها، سواء مُعلبات اللحم، أو السردين، أو الخُضار، كما تفعل الطفلة افتكار ميمة.
وتقول الطفلة افتكار (11 عاماً) لـ "العربي الجديد" إنها فقدت والدها قبل الحرب، إذ توفى بعد صراعه مع المرض، فيما استشهد شقيقها الكبير في الأيام الأولى للحرب، وهو في طريقه إلى عمله، الأمر الذي أفقدهم أي مصدر دخل، باستثناء بعض المُساعدات الإغاثية، والتي يقومون ببيع بعض أصنافها، لشراء باقي مُتطلبات البيت الضرورية.
وبسبب اختفاء حلوى الأطفال الجاهزة، ترافقت مع العدوان الإسرائيلي ظاهرة تمثلت في مئات البسطات الصغيرة التي يتولى إدارتها أطفال، لبيع حلوى العوامة، وأصابع زينب، والفستقية، والسمسمية، والجوز هندية، والمهلبية، وبليلة القمح، والحمص، والفول، والفُشار، والكعك بالعجوة، ومعجنات الشوكولاتة والجبن والزعتر والبيتزا، وعصائر الخروب، والكركديه.
ولا يقتصر عمل الأطفال على من فقدوا معيلهم فقط، إذ يساعد بعضهم أهله لتلبية كافة متطلبات الأسرة، بسبب حالة الغلاء الشديدة. عن ذلك تقول الطفلة ليان أبو سعدة (13 عاماً) إنها تُساعِد والدها برفقة شقيقها محمود، في توفير المصروف اليومي، عبر بيع البليلة داخل مدرسة اللجوء.