على وقع احتجاجات شعبية عارمة وقّع لبنان والبنك الدولي، اليوم الجمعة، اتفاقية القرض لبرنامج الفقر ودعم شبكة الأمان الاجتماعي، وذلك خلال اجتماع عُقِد في السراي الحكومي برئاسة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب.
يأتي ذلك على وقع الانهيار المتمادي، حيث بات أكثر من نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر. وارتفع عدد السكان الذين يعانون من فقر مدقع من 8 إلى 23%، وفق الأمم المتحدة، حيث انخفض الناتج الإجمالي المحلي 25% في العام 2020، وقفزت الأسعار بنسبة 144 في المئة، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي.
وتفاقمت الأزمة بعدما فرضت المصارف تدريجاً، منذ خريف العام 2019، قيوداً مشددة على الحسابات خصوصاً بالدولار. وبات المودعون غير قادرين على سحب دولاراتهم، لكن يمكنهم الحصول عليها بالليرة وفق سعر الصرف الرسمي المثبت على 1507 ليرات أو وفق سعر تفضيلي، لكن ضمن سقف، في حين أن سعر الصرف في السوق السوداء يكاد يلامس عتبة التسعة آلاف.
اليوم، أكد رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون خلال الاجتماع الذي ترأسه ظهر اليوم في القصر الجمهوري، لإطلاق خطة تمويل شبكة الأمان الاجتماعي من خلال قرض قدّمه البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار، الحرص على أن يتم توزيع المبالغ، التي تم رصدها ضمن إطار خطة تمويل شبكة الأمان الاجتماعي التي أعدتها الحكومة، بكل شفافية وعدالة، على الأسر الأكثر فقراً في لبنان، وذلك من دون انتقائية ولا استنسابية.
واعتبر أنه من أبسط الواجب أن تتم مساعدة هذه الأسر لتخطي المرحلة الصعبة الراهنة، التي فاقمت من صعوباتها الأزمة الاقتصادية المالية والأزمة الصحية العالمية الناجمة عن تفشي وباء كورونا.
وعرض الأمين العام لمجلس الوزراء القاضي محمود مكية لمحة تاريخية عن البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً في لبنان الذي كان انطلق في العام 2009، والتعديلات التي أدخلت عليه خلال الأعوام الماضية، ومسار اعتماد البطاقة الغذائية منذ العام 2014 وحتى نهاية العام 2020، حيث وصل مجموع التحويلات الإجمالية للبطاقات الغذائية إلى حوالي 93 مليار دولار أميركي عبر برنامج الغذاء العالمي.
ثم عرضت مسؤولة مشروع الآلية في رئاسة الحكومة ماري لويز أبو جودة تفاصيل المشروع، وهو "بقيمة 246 مليون دولار، مقسَّمٌ على 5 مكونات، وفترة القرض 13 سنة ونصف من ضمنها سنتان فترة سماح، وسداد أصل القرض على أقساط متساوية بتاريخ 15 مايو/ أيار و15 نوفمبر/ تشرين الثاني من كلّ سنة".
وعدّدت أبو جودة المكونات على الشكل الآتي، "المكون الأول 204 ملايين دولار لتوفير التمويل للأسر اللبنانية الفقيرة لتلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية وغير الغذائية. المكون الثاني 23 مليون دولار لتوفير التحويلات النقدية الإضافية للطلاب من ضمن الأسر الفقيرة المستفيدة المعرضين للمخاطر، المكون الثالث 10 ملايين دولار، لتقديم الخدمات الاجتماعية عبر تعزيز قدرات وزارة الشؤون الاجتماعية ومراكز التنمية الاجتماعية. إضافة الى زيادة فرص حصول الأسر الفقيرة والمهمشة على الخدمات الاجتماعية".
وتضيف، "المكون الرابع 9 ملايين دولار، لدعم تنفيذ برنامج شبكات الأمان الاجتماعي، منها إنشاء آلية لمعالجة المظالم في وزارة الشؤون الاجتماعية، معالجة الشكاوى... والمكون الخامس، يتمثل بالاستجابة في حالات الطوارئ المحتملة"، مشيرةً، إلى أنّ البطاقات الغذائية تغطي 197 ألف عائلة.
من جانبه، قال مدير البنك الدولي في لبنان ساروج كومار "إن أحد الأسباب المهمة التي تجعل البنك الدولي مهتماً بتقديم الدعم للبنان، هو لأننا قلقون على مستوى الفقر المرتفع فيه"، مذكّراً "إننا في البنك الدولي سنقف إلى جانب لبنان في الأوقات الصعبة التي يمرّ بها، كما كنّا إلى جانبه في الأوضاع الجيدة".
ويشهد لبنان منذ أكثر من أسبوع تحركات شعبية وتظاهرات رفضاً لقرار إقفال البلاد لمواجهة فيروس كورونا، وارتفاع معدلات البطالة والجوع والفقر والغلاء الفاحش، قبل أن تتطوّر الأحداث منذ يوم الاثنين الماضي في طرابلس عاصمة الشمال، التي تعدّ المنطقة الأكثر فقراً على ساحل المتوسط، عبر جولات من المواجهات بين المتظاهرين والقوى الأمنية والجيش اللبناني، ما أسفر عن سقوط أكثر من 300 جريح وقتيل في الأيام الأربعة الماضية.
وسجلت وقفات احتجاجية في مختلف المناطق اللبنانية رفضاً لتمديد التعبئة العامة حتى الثامن من فبراير/ شباط المقبل، ولتردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية والنقدية واتخاذ الدولة قرارات عشوائية بإقفال المؤسسات وأرزاق الناس، وضرب لقمة عيش المياومين والعمّال من دون أن تؤمن لهم في المقابل أبسط مقوّمات الصمود.
أوجه المعاناة
وفي السياق، نقلت "فرانس برس" في تقرير لها اليوم، عن الأكاديمي والباحث الاقتصادي جاد شعبان في حديث لها، أن القيود المصرفية "أدت إلى انخفاض فعلي في قيمة الودائع بأكثر من خمسين في المئة".
وأقرت السلطات خطة إنقاذ اقتصادية طموحة في إبريل/ نيسان الماضي، وتقدّمت على أساسها بطلب مساعدة من صندوق النقد الدولي. إلا أن الخطة بقيت حبراً على ورق، وعلّق صندوق النقد المفاوضات بعد جولات عدة، في انتظار توحيد المفاوضين اللبنانيين تقديراتهم حجم الخسائر ووضع إصلاحات ملحة يطالب بها المجتمع الدولي على سكّة التنفيذ.
وغرقت البلاد بعدها في دائرة من المراوحة السياسية مع ازدياد تفشي وباء كوفيد-19 الذي فاقم الأعباء الاقتصادية. ثم وقع انفجار المرفأ المروّع في 4 أغسطس/ آب، وتسبب بمقتل أكثر من مئتي شخص وإصابة أكثر من 6500 بجروح، وألحق أضراراً جسيمة بالمرفأ الرئيسي في البلاد وعدد من أحياء العاصمة.
استقالت الحكومة بعد أيام من الانفجار. ورغم الانهيار الاقتصادي المتمادي وغضب الشارع وضغوط دولية قادتها فرنسا عبر رئيسها إيمانويل ماكرون، الذي زار بيروت مرتين، محدداً مع القوى السياسية خريطة طريق لإنقاذ البلاد وتنفيذ إصلاحات عاجلة مقابل حصول لبنان على دعم دولي عاجل، لم تبصر الحكومة النور بعد، وسط تجاذبات وانقسامات سياسية كبرى.
تداعيات الإغلاق العام
في نهاية العام، ووفقا لتقرير "فرانس برس"، شهد لبنان، حيث يقيم قرابة ستة ملايين شخص، قفزة غير مسبوقة في معدل الإصابات بفيروس كورونا المستجد والوفيات. ودفع ذلك السلطات إلى تشديد إجراءات الإغلاق العام وفرض حظر تجول على مدار الساعة مع استثناءات قليلة، وقد بدأ تطبيقها منتصف الشهر الحالي وتستمر حتى الثامن من الشهر المقبل.
وجاء القرار بعد إغلاق على مراحل شهدته البلاد منذ بدء تفشي الفيروس في فبراير/ شباط. وبحسب برنامج الأغذية العالمي، تسبّب الإغلاق الأول بين مارس/ آذار ويونيو/ حزيران بانتقال نحو ثلث اللبنانيين إلى البطالة.
وأبدت منظمة "أنقذوا الأطفال" (سايف ذي تشيلدرن) قلقها "العميق" من أن يؤثر الإغلاق الجاري على العائلات والأطفال الذين يعانون من أوضاع اقتصادية هشّة، ما لم يتم دعمهم فوراً، في بلد يشكل العمال المياومون قرابة نصف اليد العاملة فيه، بحسب وزارة العمل. ولا يستفيد هؤلاء من أي تقديمات اجتماعية أو صحية.
وتقدّم السلطات، وفق وزارة الشؤون الاجتماعية، مساعدات مادية بقيمة 400 ألف ليرة (50 دولاراً) شهرياً لنحو 230 ألف أسرة لبنانية، وهو مبلغ زهيد جداً لا يكفي لتأمين حاجات أساسية، في بلد 25 في المئة فقط من مواطنيه لا يحتاجون إلى مساعدة، بحسب وزارة الشؤون الاجتماعية.
سيناريو أسوأ؟
وما لم تتكثّف الجهود لإخراج لبنان من دوامة المراوحة السياسية ووضع إصلاحات اقتصادية بنيوية قيد التنفيذ للحصول على دعم دولي عاجل، فإن المستقبل يبدو قاتماً.
ويشرح شعبان لـ"فرانس برس" أنه "إذا استمر المأزق السياسي واستمرت الاشتباكات والحوادث الأمنية، يمكن أن يرتفع سعر الصرف في السوق السوداء إلى عشرة آلاف ليرة أو أكثر مقابل الدولار، ما قد يؤدي إلى ارتفاع جديد في الأسعار".
وعلى وقع تضاؤل احتياطي المصرف المركزي بالدولار، تدرس السلطات منذ أشهر رفع الدعم عن استيراد مواد أساسية هي القمح والأدوية والوقود. ويوضح شعبان أنّ "رفع الدعم الذي كان متوقعاً أساساً في نهاية 2020 ستكون له آثار تضخمية".
أما الحصول على دعم دولي فيبقى مرهوناً، وفق شعبان، بتنفيذ الإصلاحات وتشكيل حكومة ذات مصداقية.
وتعليقاً على احتجاجات طرابلس، توجّه المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش، في تغريدة، إلى الطبقة السياسية الخميس قائلاً "شكّلوا حكومة فعالة بدون مزيد من التأخير. لم يعد بإمكان الناس تحمل هذا السقوط الحر إلى الهاوية".
وفي طرابلس، قال أحد الناشطين في المدينة لفرانس برس "الوضع المعيشي مقبل على انفجار شعبي، وما حدث ليلًا ليس إلا مقدمة".