يعيش القطاع المصرفي في اليمن أزمة سيولة حادة منذ مطلع العام الحالي، مع وصول الوضع المتردي إلى عجز كثير من البنوك عن توفير السيولة لعملائها، واتجهت نحو تقييد عملية السحب من الأرصدة والودائع إلى أدنى مستوى.
ويشكو مواطنون ومتعاملون من رفض البنوك التي لديهم فيها حسابات وأرصدة مالية في صنعاء، السماح لهم بسحب مبالغ كبيرة تزيد على 500 ألف ريال في العملية الواحدة، وتجزئة عملية السحب على أكثر من عملية سحب خلال أيام متباعدة.
متعامل مع أحد البنوك، مطيع الرافدي، يشير لـ"العربي الجديد"، إلى عدم قدرته على السحب من رصيده في البنك الذي يزيد على خمسة ملايين ريال، إذ احتاج مؤخراً لمبلغ يصل إلى نحو مليوني ريال لتسديد بعض الالتزامات الضرورية، لكنه فوجئ برفض البنك قيامه بسحب هذا المبلغ دفعة واحدة بسبب أزمة السيولة، كما تم إبلاغه.
هذه المشكلة وما فرضته من إجراءات نتيجة اهتزاز القطاع المصرفي في اليمن، أدت إلى تدهور ثقة المودعين والمتعاملين معها بالنظر إلى ما أقدمت عليه من وضع سقوف محددة للسحب من الحسابات الجارية، وعدم تسييل الودائع الآجلة، إضافة إلى رفض قبول الودائع بالعملة الأجنبية، وذلك لمواجهة أزمة السيولة التي تمر بها وتهدد بقاءها بشكل كبير، في ظل استمرار المعارك الدائرة في البلاد على أكثر من صعيد، ليس فقط العسكري، بل والسياسي والاقتصادي الذي برز كورقة رئيسية في الصراع الذي أتم عامه السادس.
كما يرى مصرفيون وخبراء اقتصاد أن هذه الوضعية الصعبة التي تمر بها البنوك اليمنية وتهددها بالانهيار الفعلي، تسببت في تحوّل شركات الصرافة المنتشرة بكثافة في مختلف المحافظات اليمنية، خصوصاً المدن الرئيسية، لتكون البديل الذي جذب كثيرا من المتعاملين المصرفيين والشركات والتجار والمستوردين لاستخدامها لحفظ النقود خارج إطار البنوك.
أستاذ الاقتصاد بجامعة صنعاء، مطهر العباسي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، يلفت إلى ما مر به القطاع المصرفي في اليمن خلال السنوات الست الماضية للحرب، إذ خسر الاقتصاد معظم الاحتياطيات من النقد الأجنبي، فتوقف تدفق العوائد من صادرات النفط والغاز، كما تم تجميد القروض والمساعدات للحكومة، وكل تلك العوامل جعلت البنك المركزي اليمني عاجزا عن إدارة سعر الصرف والتحكم فيه كما كان سابقا، مما أدى إلى تزايد سعر صرف الريال مقابل الدولار، حتى وصل إلى ثلاثة أضعاف ما كان قبل الحرب.
يجمع كثير من الخبراء والمعنيين بالشأن الاقتصادي في اليمن على هذه النقطة وما تسببت به الحرب التي جاءت لتضيف الملح إلى الجروح العميقة في جسد البنوك، واهتزاز ملاءتها المالية والتي تراجعت من 13 مليار دولار في اّخر عام قبل الحرب إلى 4.4 مليارات دولار، بسبب تزايد سعر الصرف والانهيار المتواصل للعملة، وما أصابها من تبعات نتيجة الصراع الدائر في هذا الجانب وتجزئتها وتدهور قيمتها والشح التدريجي في السيولة، والتي وصلت معها البنوك اليمنية إلى مفترق طرق يهدد بقاءها خلال الفترة القادمة.
ويربط العباسي بين مشكلة تراكم الدين العام المحلي في اليمن، خصوصاً لدى القطاعات المالية الحكومية كبنكي عدن وصنعاء، وأزمة السيولة الحاصلة في القطاع المصرفي، ما أفقد البنوك قدرتها على القيام بالأنشطة المتعارف عليها في جذب الودائع والقيام بالعمليات المصرفية المعتادة.
ويضيف أيضا أن الإجراءات المتخذة من البنك المركزي في كل من صنعاء وعدن عمّقت التشطير الاقتصادي بين صنعاء وعدن، وهو ما يفسر التباين في سعر الصرف في مناطق نفوذ الأطراف المتحاربة، والذي استغله الصرافون والبنوك أسوأ استغلال، وجعلوا من منع تداول الطبعة القديمة ذريعة لامتصاص أموال المواطنين والتجار بالباطل. وإذا استمرت الأوضاع كما هي عليه، والحديث للعباسي، فإن سعر صرف الدولار قد يتجاوز عتبة الألف ريال في عدن ومناطق الحكومة المعترف بها دولياً ويعمق الفجوة بينها وبين المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
في السياق، يقول رئيس جمعية البنوك اليمنية، محمود ناجي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن القطاع المصرفي اليمني هو أحد مكونات القطاع الخاص التي تلعب دورا مهما في دعم الاقتصاد الوطني، وقد التزم القطاع جانب الحياد منذ أن بدأ الصراع السياسي في البلاد، ويمارس أنشطته بمهنية صرفة. ويقدم القطاع، حسب ناجي، الخدمات المالية المطلوبة لضمان استمرارية النشاط الاقتصادي، وتلبية الاحتياجات المعيشية الأساسية للمواطنين في كل المحافظات اليمنية، بصرف النظر عن الأطراف السياسية المسيطرة على الوضع في تلك المحافظات.
لذا يؤكد ناجي على أهمية تحييد الاقتصاد والقطاع المصرفي عن الصراع الدائر، والذي يتطلب تعاون الجميع في مد يد المساعدة والمحافظة على البنوك اليمنية التي عانت ويلات الحرب وتبعاتها الكارثية، ولايزال يدفع ثمنا باهظا مع استمرار الحرب والصراع على أكثر من مستوى.
وتشهد العملة الوطنية انهيارا متواصلا في عدن ومناطق الحكومة اليمنية، بعد تجاوز سعر صرف الريال حاجز 900 ريال للدولار الواحد، بينما يراوح سعر الصرف مكانه في صنعاء ومناطق نفوذ الحوثيين عند مستوى 598 ريالا.
حسب اقتصاديين ومصرفيين، فإن تدهور قيمة العملة الوطنية في اليمن يؤثر سلبا على العديد من شرائح المجتمع، خاصة الموظفين والعمال، فتزايد سعر الصرف يخفض القوة الشرائية للريال، وبالتالي يؤثر سلبا على القيمة الحقيقية للرواتب والأجور. وهذا يعني تدهور المستوى المعيشي لتلك الفئات ووقوعهم في براثن الفقر والحاجة، كما يؤثر على الموقف المالي للنظام المصرفي، حيث تنخفض قيمة الأصول المالية للبنوك، خاصة القروض المقدمة للعملاء.
وتجد الحكومة مؤخراً صعوبات عديدة في توفير السيولة المالية لصرف رواتب الموظفين المدنيين في مناطق سيطرتها، وكذا للجهات والدوائر الحكومية الملتزمة منذ 2018 بصرف رواتب موظفيها في صنعاء ومناطق نفوذ الحوثيين الذين يرفضون ويمنعون تداول العملة الجديدة المطبوعة التي تعتمدها الحكومة المعترف بها دولياً في صرف ما اعتادت على صرفه من رواتب الموظفين المدنيين.
الحكومة التي غادرت عدن مؤخراً نتيجة الاحتقانات والتوترات التي تسبب فيها، كما تعتقد أطراف حكومية، المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً في عدن ومناطق أخرى في جنوب اليمن، تدرس صرف مرتبات القطاع الإداري للدولة والموظفين النازحين بشكل تدريجي، عبر فروع ووكلاء بنك التسليف التعاوني الزراعي "كاك بنك" في المحافظات الواقعة في نطاق سيطرتها المفترضة.
بدوره، يؤكد رئيس مركز الإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر، في حديثه لـ"العربي الجديد"، على أهمية قيام الحكومة المعترف بها دولياً بواجبها في تطبيع الحياة في مناطق نفوذها، وإعادة الثقة في النظام المصرفي اليمني، والعمل على تهيئة الأجواء الأمنية والسياسية لخلق بيئة مواتية لممارسة الأعمال والأنشطة الاقتصادية والتجارية، وتسهيل وصول البضائع والمساعدات الإنسانية، رغم أن هذه المهمة غير مضمونة بالنظر للأوضاع السائدة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، وبعد أن أصبح استمرار ممارسة عملها من عدن عاصمتها المؤقتة محفوفا بالكثير من المخاطر والصعوبات.