دفع نقص العديد من السلع الأساسية في تونس وارتفاع الأسعار، الكثير من الأسر إلى العودة من جديد للبقالات الصغيرة المنتشرة في مختلف الأحياء، وذلك بعد سنوات طويلة نجحت خلالها المراكز التجارية الكبرى من جذب المتسوقين، لكن مغالاتها في تحقيق هوامش أرباح في الفترة الأخيرة ونقص السلع الأساسية بها، دفعا الكثيرين إلى "التصالح" مع صغار تجار التجزئة، الذين باتوا يحصلون على أولوية التزود بالسلع من تجار الجملة وفق تشديدات حكومية.
وتلعب بقالات الأحياء دوراً مهماً في مساعدة التونسيين على تجاوز نقص التموين بالمواد الأساسية، حيث تشهد تجارة التجزئة داخل الأحياء انتعاشة مستفيدة من امتياز منحها أولوية التزويد بالمواد الأساسية من قبل تجار الجملة.
وتعاني أسواق تونس من نقص في مواد أساسية على غرار الدقيق والسكر والحليب ومشتقاته، ما يجبر المواطنين على الوقوف في طوابير يومية من أجل التزود باحتياجاتهم.
ويجد الكثيرون في بقالات الأحياء ملاذاً، معوّلين على عامل الوفاء لهذه الدكاكين التي تفرد عملاءها الدائمين بمعاملات خاصة، وتمنحهم حق الأولوية بالتزود بالسلع التي تتوافر لديهم من قبل تجار الجملة.
يقول ناجي العمدوني، وهو صاحب بقالة في العاصمة تونس، إن نسبة الإقبال على محله تتضاعف متى توافرت المواد الأساسية، مؤكداً أن الدقيق والأرز والحليب والسكر أصبحت منتجات جذب الزبائن.
وأكد العمدوني الذي يدير البقالة منذ ما يزيد على 35 عاماً أن الحرفاء (الزبائن) الأكثر وفاءً لمحله يحظون بالتمييز، وهم أصحاب الأولية في الحصول على المواد الشحيحة في السوق.
ويتحدث التاجر لـ"العربي الجديد" عن جهود كبيرة يبذلها التجار للحصول على المواد الأساسية من تجار الجملة، رغم حرص أجهزة المراقبة الحكومية على حسن توزيع المواد التموينية التي تضخ في السوق.
ويقول إن "بقالات الأحياء جزء مهم من شبكة توزيع الغذاء في البلاد، وهي تلعب دوراً كبيراً في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وتقف حائلاً أمام تغوّل المراكز التجارية الكبرى التي تسبّب لهيب الأسعار نتيجة نسبة الربح العالية التي تضيفها إلى أسعار السلع".
ولمدة أكثر من عقدين، تراجع دور بقالات الأحياء التي لم تستطع الصمود أمام زحف المجمعات التجارية الكبرى التي نشرت علاماتها في كل المدن، مستفيدة من الامتيازات التي منحتها الدولة لهذا القطاع.
وحسب بيانات رسمية، يبلغ عدد مؤسسات تجارة التجزئة 235771 مؤسسة، ما يجعلها قادرة على تغطية احتياجات المواطنين في ظل المتغيرات الجديدة، ومنها نقص السلع في الأسواق وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين.
وبقالة الحيّ أو ما يعرف محلياً بـ"العطارة" جزء مهم من تجارة التجزئة التي تعتمد أساساً على القرب والعلاقات الإنسانية المرنة التي تنشأ بين سكان الحي الواحد، وهو ما يجعل هذه البقالات تقدم تسهيلات في الدفع لعملائها مقابل الدفع الكاش في المساحات التجارية الكبرى.
ويؤكد رئيس منظمة إرشاد المستهلك لطفي الرياحي، أهمية الدور الاقتصادي والاجتماعي الذي تلعبه بقالات الأحياء في زمن الأزمات، مشيراً إلى أن هذه المحلات سبق أن سجلت انتعاشة إبان جائحة فيروس كورونا، حيث كانت حلقة الوصل الأولى بين المواطنين والسوق.
ويقول الرياحي لـ"العربي الجديد" إن البقالات تتمتع بالامتياز في الحصول على السلع الأساسية ولا سيما المدعومة من قبل الدولة حتى تلعب هذه المحالّ الدور الاجتماعي الموكول إليها.
وفسر العودة نحو بقالات الأحياء بهروب المستهلكين من هامش الربح العالي الذي تفرضه المساحات التجارية الكبرى (المراكز التجارية)، فضلاً عن تشجيعها على الاستهلاك المكثف الذي باتت تتحاشاه شريحة واسعة من التونسيين.
ويضيف أن "شحّ السيولة لدى التونسيين يجعلهم يكتفون بالضروريات، ولا سيما عمال المياومة (العاملون بأجر يومي) ومن يتكسبون من القطاعات الهشة التي لا تدرّ عليهم عائداً منتظماً".
ويؤكد أنّ "الغلاء أنهك مالية معظم التونسيين، ولم تعد لديهم القدرة على مجابهة الكثير من المصاريف، لذا يكتفون بالسلع الضرورية التي تجتهد بقالات الأحياء في توفيرها"، لافتاً إلى عودة انتشار الدكاكين التي تبيع المواد الغذائية ومواد التنظيف والسلع الضرورية بشكل واسع بعد أن كادت تنقرض.
فضلاً عن الدور الاجتماعي الكبير الذي تلعبه تجارة التجزئة في توفير السلع الأساسية للمواطنين من ذوي القدرة الإنفاقية المحدودة، يساهم القطاع التجاري في الناتج الداخلي الخام بنسبة 9.34%.
وتأبى أسعار الغذاء في تونس التراجع، رغم نجاح السلطات النقدية (البنك المركزي) في السيطرة على التضخم وخفض نسبته العامة بنحو نقطتين مئويتين خلال العام الحالي، وسط مطالب بإيجاد حلول لتخفيف الأعباء على الأسر المنهكة بفعل الغلاء.
وتبرز أحدث البيانات الصادرة عن معهد الإحصاء الحكومي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت على أساس سنوي بنسبة 11.9%، حيث قفزت أسعار زيوت الطعام بنسبة 29% ولحم الضأن بنسبة 28% ولحم البقر 17.1% وأسعار الغلال بنسبة 11.4%، والقهوة بنسبة 35%. وانخفض التضخم خلال الشهر الماضي إلى 8.3% بعدما سجل في فبراير/شباط أعلى مستوياته عند 10.4%.
وبحسب بيانات معهد الإحصاء، يبلغ متوسط الرواتب الشهرية لنحو 670 ألف تونسي يعملون في القطاع الحكومي 1387 ديناراً (نحو 450 دولاراً) شهرياً، بينما يحتاج تحقيق العيش الكريم لأسرة تتكون من 4 أفراد، وفق دراسة أجرتها منظمة "إنترناسيونال ألارت تونس" في مارس/ آذار 2021، إلى ما لا يقل عن 2400 دينار.
ودفعت المصاعب الاقتصادية التي يعيش التونسيون على وقعها طوال السنوات الأخيرة الكثيرين إلى الاستدانة من البنوك عبر الحصول على قروض استهلاك متفاوتة القيمة لتسديد مصاريفهم اليومية وإيجاد سيولة مالية للعديد من النفقات.
وفي آخر تقرير نشره المعهد التونسي للاستهلاك، فإن معظم مصادر ديون الأسر التونسية متأتية أساساً من البنوك بنسبة 57%، كما تخصص الأسر الحاصلة على قروض مصرفية حوالي 43% من مداخيلها لدفع ديونها، وترتفع هذه النسبة إلى 60% في بعض الأحيان للعديد من العائلات.