أردوغان وسر التباهي بالقطاع الزراعي

16 فبراير 2021
أردوغان يطمح في أن تصبح تركيا بين الاقتصادات العشرة الكبرى (الأناضول)
+ الخط -

قلما يفرد الرؤساء حديثاً مطولاً حول أحد القطاعات الاقتصادية، فمن الطبيعي أن تتناول أحاديث الرؤساء المؤشرات الاقتصادية الكلية، وربما تتناول مؤشرات بعض القطاعات بصورة إجمالية، وتترك التفاصيل القطاعية للوزير المختص، لكن ما حدث من إسهاب وتفصيل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإنجازات القطاع الزراعي في بلاده قد يبدو غريبا على أحاديث الرؤساء.

الحديث جاء في أعقاب اجتماع عادي للحكومة، وليس في مناسبة تخص القطاع الزراعي، كما أن الحديث غلف بالكثير من التباهي الذي يوضح أهمية القطاع للرئيس بصورة شخصية، لا سيما في ظل تحقيق قطاعات أخرى لطفرات نوعية كبرى ولم يفرد لها الرئيس مثل هذا الحديث.

وفي الحقيقة يجب التأكيد بداية على أن منجزات القطاع الزراعي التركي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية تستحق هذا الإسهاب وذلك التباهي، فقد احتلت تركيا المركز الأول على مستوى أوروبا في إنتاج المواد الزراعية بعد ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي الزراعي من 37 إلى 278 مليار ليرة خلال السنوات الـ18 الماضية.

وكان ذلك نتاجاً لإرادة سياسية قامت بدعم القطاع خلال تلك الفترة حتى بلغ الدعم المقدم للمزارعين الأتراك خلال عام 2020 وحدها نحو 22 مليار ليرة، وبذلك زاد هذا الدعم 12 ضعفا خلال العشر سنوات الاخيرة، وأثمر الدعم الذي أكد الرئيس العزم على مواصلته إلى ارتفاع الانتاج الزراعي إلى أعلى مستوى في تاريخ البلاد حيث بلغ 124 مليون طن، كما احتلت تركيا المركز الثاني في أوروبا بعدد الماشية الكبيرة بواقع 18.6 مليون رأس، والمركز الأول بعدد الماشية الصغيرة بأكثر من 55 مليون رأس.

وساعد في هذا النمو المضطرد للقطاع اهتمام الدولة ببنيته الأساسية، والزيادة في استخدام تقنيات الري الحديثة بفضل الإنفاق الحكومي الواسع على مشروعات الري، حيث شيدت الدولة خلال الـ18 عاما الماضية، 600 سدّ، و423 بركة ريّ، و1457 مرفقا للري، علاوة علي التوسع في استصلاح الأراضي، بل واستئجار الدولة والقطاع الخاص للعديد من الأراضي في الدول الأجنبية والقيام باستثمارها زراعياً.

وكان من الطبيعي أن ينتج ذلك قفزة نوعية في وفرة الإنتاج، وبالتالي الصادرات الزراعية، والتي قفزت من 3.7 مليار دولار إلى ما يزيد عن 18 مليار دولار خلال 18 عاما الاخيرة، ومؤخراً احتلت تركيا المركز الأول عالميا في تصدير القمح، والثاني في تصدير المعكرونة، وبلغ الفائض الصافي للتجارة الخارجية في الصادرات الزراعية 5.3 مليارات دولار.

وصدرت تركيا 1827 نوعا من المنتجات الزراعية إلى 193 دولة العام الماضي، وبالإضافة إلى ذلك تنتج نحو 11 ألف نوع من النباتات، في حين أن العدد الكلي لأنواع النباتات في أوروبا بالكامل هو 11.5 ألف نوع.

ورغم كل ما سبق من أرقام تدل على طفرات كبري للقطاع الزراعي التركي، فإنه ليس من عادة أردوغان مثل هذا التباهي بأحد القطاعات، لا سيما أن معظم القطاعات الاقتصادية التركية حققت إنجازات شبيهة خلال فترة حكمه، فالجميع شاهد طفرة صناعة الطائرات المسيرة التركية على سبيل المثال، ولم يفرد لها الرئيس مثل هذا الاسهاب، وهذا يؤكد على أن الإنجاز في القطاع الزراعي كان ذو أهمية خاصة استدعت ذلك، وهو ما يظهر جلياً عند القراءة المتأنية لأحاديث الرئيس منذ فترة طويلة.

فالرجل أكد مراراً على أهمية الأمن الغذائي وعلى أنها تتساوى من وجهة نظره مع صناعة الدفاع والأسلحة المحلية، وأن الاكتفاء الذاتي في مجال الزراعة والثروة الحيوانية ضروري لاستقلال الدولة اقتصاديا، وأن على الدولة القوية أن تثبت نفسها في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية والغذاء كما تثبتها في مجالات الجيش والاقتصاد والدبلوماسية. كما استمرت أحاديث الرئيس في التأكيد على أن الإمبراطورية العثمانية بدأت بالضعف عندما بدأ اقتصادها وزراعتها بالتدهور، وأن رقي البلدان وانهيارها يبدأ من الزراعة، وأن الطريق إلى تركيا القوية يبدأ بخطوات قوية في القطاع الزراعي.

من الواضح أن حديث أردوغان جاء مشحوناً بخلفيات تاريخية وسياسية ذات مغزى ودلالات أبعد من كونه انجازاً اقتصادياً مهماً يضع الدولة في ترتيب متقدم بين دول العالم، كما يعكس إيمان الرجل بأهمية القطاع على خلاف الكثير من مدعي الفكر التنموي الحديث واللحاق بركب التقدم الغربي عن طريق التركيز على القطاع الصناعي وإهمال القطاع الزراعي، بل واعتبار عظمة مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي للدولة أحد مظاهر التخلف الاقتصادي.

فالرجل الذي يسعي لوضع الاقتصاد التركي بين الاقتصادات العشرة الكبرى في العالم يرى أن المفتاح يكمن في قوة القطاع الزراعي وتوفيره للاكتفاء الذاتي من الغذاء، ويؤمن بأن ذلك في نفس الأهمية مع الصناعات الدفاعية. كما أنه يعتبر من الدرس التاريخي المتعلق بأن تخلف القطاع الزراعي هو أحد الأسباب الهامة لانهيار الامبراطورية العثمانية، وهو لا يقف عند حدود استدعاء الأحداث التاريخية بل يتعداه إلى الاعتقاد بأن استدامة قوة الدولة يقوم فيها قطاع الزراعة بدور رئيس.

وانطلاقاً من هذه الرؤية، نحتت السلطة الهدف الاستراتيجي للقطاع، والذي يسعى إلى أن تكون تركيا من بين أكبر خمسة بلدان منتجة كلياً على مستوى العالم بحلول عام 2023، وذلك كجزء من أهدافها المخططة للقطاع الزراعي والتي تتضمن الوصول بإجمالي الناتج المحلي الزراعي إلى 150 مليار دولار، و40 مليار دولار للصادرات الزراعية، و8.5 ملايين هكتار من مساحة المناطق القابلة للري بدلا من 6.5 ملايين هكتار حاليا.

تركيا تعتمد على قاعدة بحثية ضخمة تتكون من أكثر من 900 مركز بحثي منتشرة في أرجاء البلاد، شكلت دعائم الانطلاق الرئيسية للقطاعات المختلفة، لا سيما في ظل الإنفاق الكبير على البحث العلمي بواقع 14 مليار دولار خلال عشر سنوات، شغلت بها المركز الثاني عالميا من حيث سرعة زيادة حجم الإنفاق على البحث والتطوير، وكانت منتجات تلك المركز البحثية هي الرافعة الأساسية لهذه الطفرة الإنتاجية للقطاعات الاقتصادية للدولة.

وفي هذا السياق جاء تباهي أردوغان، فقد حققت الزراعة التركية إنجازات لا تقل أهمية عن تلك المتحققة في إنتاج الصناعات الدفاعية والطائرات المسيرة، وكذا في المجالات العسكرية والدبلوماسية، ولا تقل كذلك عن النجاحات الكبرى في مجالات الإنتاج الصناعي والتصدير، ولا في مجالات توطين المقصد التركي كواحد من أهم مقاصد السياحة العالمية، وكل ذلك انطلاقا من دعائم علمية وبحثية وتخطيط استراتيجي من الواضح أنه نجح في نقل الأحلام إلى أرض الواقع.

المساهمون