المصري البسيط يعرف أن "الكذب مالوش رجلين"، ورغم ذلك يقع كثيرون في حبائل الكذب فيصدقونه إلى أن تقع لهم واقعة تجعلهم يفيقون على كارثة، مثلما حدث في نكسة 1967، وغيرها من النكبات الكبرى التي حلت بنا فيعودون إلى ترديد مثلهم الشعبي الشهير "الكذب مالوش رجلين".
على النقيض من ذلك تجد أن السلطة اعتادت استخدام أساليب الكذب، عملا بمبدأ الأنظمة الفاشية، ونموذجه القياسي "غوبلز": أكذب ثم أكذب ثم أكذب حتى يؤمن الناس بأن ما تقوله هو الصدق فيدافعون عنه.
ينسى الكاذبون أن الأيام هي أوراق سجل التاريخ، وأن الزمن سيضع الجميع أمام مسؤولياتهم عما فعلوه في حياتهم أو قالوه، ولو بعد حين.
من الأكاذيب الكبرى التي عشنا معها طوال العقد الماضي، أثناء وبعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 أن مصر بها أزمة خطيرة في توليد الكهرباء، استدعت ثورة المواطنين، والاقتراض من البنوك الدولية نحو 32 مليار دولار منذ عام 2014 لإقامة محطات إنتاج كهرباء جديدة.
برر نظام 3 يوليو/ تموز 2013 سرعة شراء المحطات الجديدة بالأمر المباشر، وحالة الاقتراض الرهيبة التي قام بها وبلغت نحو 515 مليار جنيه، أي ما يعادل 32.8 مليار دولار حتى نهاية عام 2019، بأنها تستهدف الاستجابة لطلبات الشعب.
كما زاد الطين بلة أن تحمل الناس أعباء تلك التكاليف بأن أصبحت الكهرباء سلعة باهظة الثمن، فزادت الأسعار 5 مرات متتالية، وستزيد حتما خلال يوليو المقبل، لتتخلص الحكومة من كافة أنواع الدعم التي كانت تتحملها الموازنة العامة لسنوات طويلة.
عندما وقعت الأزمة كنا نعلم بحكم الخبرة والمعلومات المتاحة من البرلمان والحكومة ذاتها، وخاصة وزارتي البترول والكهرباء، أن هناك مشكلة.
فقد حضرنا مناقشات عديدة في البرلمان منذ عام 2007 في لجان الخطة والموازنة والطاقة، على وجه الدقة، حول زيادة فاتورة الدعم بمعدلات عالية، ما يقضي بضرورة زيادة أسعار بيع الوقود والكهرباء، لتخفيف الأحمال عن شركات البترول التي بدأت تأخذ نصيب الشريك الأجنبي، ولا تستطيع السداد.
رفض الرئيس الراحل حسني مبارك زيادة الأسعار، وبدأت البلاد تشهد تذمرا بين العمال والموظفين طلبا لتحسين المعيشة، في الوقت نفسه تعددت الانتخابات النيابية.
ظل التأجيل السياسي معطلا لأي إصلاحات في التسعير، فلجأت حكومة الدكتور أحمد نظيف إلى تخفيض المخصصات المالية السنوية لمشروعات البترول والكهرباء. طلبت الحكومة ألا يزيد النمو لها عن 5% سنويا، بينما كان الطلب يتزايد على استهلاك الكهرباء بنسب تصل إلى 8% سنويا.
بدأت الأزمة تتكشف في نهاية حكم مبارك، حيث لجأت وزارة الكهرباء إلى أسلوب المناورات بين الأحياء والمناطق الصناعية لتوزيع الأحمال.
ظل الأمر عالقا حتى بدأت إرهاصات ثورة 25 يناير، وبدأ الناس يعبرون عن سخطهم لانقطاع التيار الكهربائي، وهو الأمر الذي كان يمر بسهولة قبل الثورة بعامين، بدون إثارته في وسائل الإعلام.
طلبت وزارة الكهرباء من مؤسسة شنايدر الألمانية دراسة حول تطوير المحطات بما لا يحملها قروضا جديدة، ويوظف أفضل قدراتها. وتدخل الاتحاد الأوروبي بصفته أكبر ممول لمشروعات الطاقة في مصر لإعداد دراسة أخرى.
خرج الطرفان بأن مصر لا تعاني من أزمة خطيرة في الطاقة، لأن نسبة العجز لا تتجاوز 20% من أقصى الأحمال المطلوبة على مستوى الجمهورية.
اقترحت "شنايدر" تطوير بعض المحطات القائمة على وجه السرعة بتدبير شراء احتياجاتها من قطع الغيار وتحسين أداء شركات البترول التي أصبحت تنتج وقودا رديئا مع عدم تطويرها خلال سنوات ما قبل الثورة.
وأكدت دراسة الاتحاد الأوروبي أن مصر تحتاج ما بين 2000 إلى 3000 ميغاوات فقط لتعويض العجز في الطاقة وتوفير احتياطي لساعات الذروة في أيام الصيف تراوح ما بين 10% و16% وفقا للمعدلات العالمية. معلومة أعلنها وزير الكهرباء الحالي محمد شاكر بنفسه في مؤتمر بجريدة الأهرام، نهاية العام الماضي، 2021.
حرصنا على توعية الجمهور أن يصبر، خلال الأزمة، لأن الدولة عاجزة عن سداد ثمن وقود محطات التوليد البالغة 6.2 مليارات دولار، ولكن كانت هناك يد عليا تسعى إلى دفع الناس للخروج على الثورة المصرية بأي وسيلة، والهجوم على محطات الكهرباء واتهام من يعملون بها بأنهم غير قادرين على تشغيلها، رغم أن وزارة الكهرباء من الوزارات المعدودات التي لم تتغير قياداتها ولا أساليبها الإدارية خلال ثورة 25 يناير وما بعدها.
التدخل الوحيد كان فرديا، لمسناه أثناء انتخابات الإعادة الرئاسية بين المرشحين الفريق أحمد شفيق والدكتور محمد مرسي في العام 2021، حيث انضم بعض الموظفين للجان الشعبية التي ضمت أعضاء سابقين من الحزب الوطني، الذين وعدتهم الأجهزة الأمنية بأنهم سيعودون للعمل السياسي، فإذا بهم يشاركون في قطع التيار الكهربائي عن المناطق المكتظة بالسكان والمناطق الصناعية وإن ظل تأثيرهم محدودا وعند شبكات التوزيع الفرعية.
خضع قطاع التوليد العملاق لحراسة الجيش، ففرحنا بذلك، وكنا نتعجب من توقف محطات عن العمل بالكامل، وهي في حالة فنية جيدة، ودخول شبكات السولار مع الغاز للمحطات.
ساد التخبط إدارة القطاع وكنا على يقين بأنه مقصود لغاية ما، حتى وجدنا من ينقض على الثورة، فإذ بالنظام يتفق على إقامة 18 محطة كهرباء جديدة تماثل في قدراتها جميع المحطات التي أنشأتها مصر على مدار 100 عام. تحول الأمر إلى مزايدة غريبة، دفعتنا إلى التساؤل لماذا كل هذه المحطات؟ فكان الجواب لنوفر الطاقة للناس الثائرة؟
زاد الأمر غموضا حينما رأينا الصفقات في فترة ما بعد يوليو 2013 تسند بالأمر المباشر لشركات بعينها، سيمنس الألمانية وجنرال إلكتريك الأميركية، حيث حصلت كل منها على أوامر بالشراء الفوري، منحت ألمانيا 8 مليارات دولار ومثلها للشركة الأميركية من خلال قروض من بنوك عالمية بأسعار مرتفعة.
عندما طلب الصحافيون عام 2014 من وزير الكهرباء تفسير أمر الإسناد المباشر، قال بالحرف الواحد "هذه أمور تأتي من الرئاسة ولا علم لي بها".
امتنع الوزير عن الإدلاء بأي معلومات بعدها، إلا عندما يطلب من المصريين تقبل زيادة الأسعار لسداد قيمة المحطات!
ويبحث منذ 3 سنوات عن مشتر للمحطات الثلاث التي أقامتها سيمنس ليسدد 8 مليارات دولار مطلوبة بشكل عاجل. فهناك محطات متوقفة عن العمل مع وفر هائل في الكهرباء يزيد 80% عن الاحتياطي المطلوب عالميا، ولا يمكن تصديرها كلها لضعف في شبكات النقل مع الدول العربية.
بدأت الوزارة تعترف بالأزمة الفنية والمالية، ويعلنها الوزير على الملأ في مؤتمرات عامة، وها هي تخرج في إحصائيات على موقع الشركة القابضة للكهرباء وهيئة الطاقة المتجددة الدولية بالإمارات، منذ عام 2018، من خلال بيانات ودراسات رسمية.
تبين الدراسات أن مصر لم تعرف أزمة طاقة كارثية خلال السنوات الماضية، وكانت في غنى عن هذا البذح الذي يدفع ثمنه المصريون الآن من قوتهم اليومي.