في مقال لكاتب من المملكة المغربية يتحدّث فيه عن رمزية ممات الطفل ريان التي استمالت القلوب قبل أن تكسرها، يقتبس على لسان الزعيم السوفييتي، جوزيف ستالين، مقولة مفادها "بأن موت رجل يشكل مأساة، أما موت الملايين فهو مجرّد إحصائية".
ولما دقّقت، وجدت أن هذا الاقتباس لم يرد على لسان ستالين، بل هو جملة ساخرة وردت في مقال لكاتبٍ ألماني يسخر من روح الدعابة الفرنسية.
ويبدو أن ما يجري في الوطن العربي من مآسٍ تقض المضاجع ولا تبلّ الجوانح (كما يقول ابن زيدون) فينطبق عليه هذا الاقتباس المزعوم إذا كنا نتحدّث عن الأطفال. وسوف أُعطي هنا خمسة أمثلة صارخة، حسب تسلسلها التاريخي.
أولها الطفل الفلسطيني محمد الدرة الذي صوّره صحافي فرنسي في اليوم الثاني على انتفاضة القدس، حيث كان الطفل محمد يختبئ خلف والده الذي احتمى ببرميل، وأطلق الجنود الإسرائيليون النار عليهم بدم بارد، واستشهد محمد.
كان هذا يوم الثلاثين من شهر سبتمبر/ أيلول من العام 2000. وأحدث ذلك الشريط القصير الذي لم يزد عن دقيقة ضجّة كبرى. وقد كسبت القضية الفلسطينية من ذلك الشريط الكثير الكثير.
شرارة الربيع العربي
وثانيها مقتل الشاب التونسي محمد البوعزيزي، عندما عمل على إحراق نفسه في منطقة سيدي بوزيد في تونس لمّا صفعته شرطية ادعت أنه هاجمها، ولما أبت الشرطة أن تستمع لشكواه أحرق نفسه يوم السابع عشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2010، وما لبث أن فارق الحياة يوم الرابع من يناير/ كانون الثاني عام 2011، وكان مماته الشرارة التي اطلقت الربيع العربي بدءاً من تونس.
وثالثها صورة لجثة الطفل الكردي، آلان، اللاجئ من سورية مع والده وأخيه، والذي هرب معهما أملاً في حياة كريمة. ولكن مصوّراً صحافياً وجد الجثة التي ألقت بها الأمواج على شاطئ منتجع بودروم في تركيا، فاهتاج الرأي العام العالمي على مأساة اللاجئين السوريين، وأبكت ناسا كثيرين، ولقد وجدت الجثة يوم الثاني من سبتمبر/ أيلول عام 2015.
ورابعها الشريط الذي نقل صورة الفتاة الفلسطينية، عهد باسم التميمي، وهي تصفع ضابطين إسرائيليين تحدّياً لهما لأنها تعرّضت مع أمها الناشطة إلى اعتداء إسرائيلي قبل ذلك بثلاث سنوات في قرية النبي صالح بالقرب من رام الله.
وقد وقعت حادثة الصفع التي صُوِّر شريطها يوم التاسع عشر من ديسمبر/ كانون الأول عام 2017. وحوكمت عهد وأمها وسجنتا ثمانية أشهر قبل أن تعودا إلى بيتهما. وصارت عهد التميمي الفتاة ذات الشعر المموج الأشقر من أيقونات للنضال الفلسطيني.
وخامساً وأخيراً وليس آخراً، قصة الطفل المغربي ريان ابن الخمس سنوات الذي زلّت قدمه فوقع في بئر عمقها 32 متراً في قرية إغران المغربية الجبلية التابعة لمدينة شفشاون الزرقاء، المعروفة بمعالمها السياحية وبتاريخها القرآني.
وقد بقيت ملحمته تبثّ على أجهزة التلفاز ووسائل الإعلام العربية والعالمية حتى حفر بئر موازية للبئر التي وقع فيها. وبعد النضال والعمل المتواصل توفي الطفل ريان وانكسرت الخواطر.
ظروف معيشية صعب
وراء كل حدث من هذه الحوادث ظروف معيشية صعبة، وقصص إنسانية تجعل قصة أوليفر تويست (للمؤلف والروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز) تبدو كأنها قصة سعيدة جداً، فكل الأطفال الذين انتشرت قصصهم ما كانوا إلا عينة من ملايين الأطفال الذين يعانون الأمرّين في منطقتنا، وصورة أطفال من اليمن ذاب عن هيكلهم الشحم واللحم لم يبق منهم إلا غلالة تذكّرنا بأنهم أحياء.
المشكلة في المغرب والطفل ريان ليست قصة محاولة إنقاذ، بل قصة البئر التي بقيت مفتوحة ليسقط فيها الطفل بدون وقاية!
نريد قصة ذلك الجبّ. ألم يرم أولاد يعقوب عليه السلام أخاهم يوسف في الجب، وهو طفل صغير، ولم تشفع له مأساته بالطبع في بيعه عبداً وعامل سُخرة؟
وماذا عن الألم الذي يقضّ مضاجع أهل قطاع غزة؟ ألم يستشهد الطفل محمد الدرّة في حضن أبيه؟ وماذا عن شعور الأب وهو يفقد وظيفته كأب في حماية طفله وهو يُقتل بدم بارد؟ كيف يعيش هذا الأب مع نفسه؟
الأطفال الخمسة، وهم أربعة ذكور قضوا نحبهم وفتاة تغلبت على فرص الموت فعاشت بعدما ذاقت مرارة السجن، ليسوا وحدهم، ولكن الإعلام والمصادفة وجدت الأشرطة المسجلة لمآسيهم ما يحرّك مشاعر الناس عبر الحدود في العالم.
هناك أطفال يوظفون في أعمال شاقة في المناجم والمحاجر وعمال نظافة وغسيل، ويستخدمون المواد الكيميائية التي تذيب عافيتهم، ويموتون وتلقى جثثهم على قارعة الطريق.
هذا عدا عن الاتّجار بأعضائهم وأعراضهم، ويستخدمون في تهريب المخدّرات ويدمنون عليها؟ من يتذكّر اسم أي منهم؟ لقد صاروا إحصائية ترد في تقارير منظمة "أوكسفام" البريطانية أو منظمة العمل الدولية أو غيرهما.
واللاجئون الساعون إلى عيش، أي عيش، خارج أوطانهم في دنيا العرب، والذين يهلكون على الطريق أو في عرض البحر، لأن مجرماً حبسهم في "علبة سردين" سمّاها قارباً، فانقلب القارب وصاروا ضحية أسماك القرش. فمن الذي يتذكّر أسماء هؤلاء أو هوياتهم. أو ليست وراء كل واحد منهم قصة؟
تجنيد آلاف الأطفال
وماذا عن الأطفال الذين نجوا من كل هذه التجارب المريرة التي تقشعر من ذكرها الأبدان؟ كيف سيكون شعورهم وسلوكهم ونظراتهم إلى الآخرين الذين لم يأبهوا بهم. هل سيبقى لدى كثيرين من هؤلاء الأطفال مشاعر ليتعاطفوا أو يرأفوا بمن يقع تحت أيديهم؟
الجريمة واستمرارها يجدان تربة خصبة ومجالات واسعة لتجنيد الآلاف من هؤلاء الأطفال في الأعمال الإجرامية. فويل للعالم الذي صارت فيه جملة قاسية ادُّعيَ بانتسابها إلى الطاغية جوزيف ستالين، ولم تصبح مجرّد جملة وحشية، وإنما واقعاً معيشاً. وهذه الجملة مع تعديل بسيط تقول "إن موت طفل يصبح مأسآة، ولكن موت الآلاف يصبح مجرّد إحصائية".