بينما تنشغل الحكومة المصرية بصدماتها المالية التي تنذر بأزمة اقتصادية حادة تهدد باضطرابات اجتماعية، لا سيما في الأحياء التي يغلب على سكانها الفقر ومحدودية الدخل، تشهد ما توصف بتجمعات الصفوة "الكومبوندات" المنتشرة على أطراف العاصمة القاهرة شرقا وغرباً أزمة قد لا تكون أقل وطأة في ظل تحول مطوري هذه التجمعات إلى "فارضي إتاوات" على الملاك والسكان تحت مسميات مختلفة لتحقيق عوائد مالية، بعدما تعرضت السوق العقارية لموجات متكررة من الركود خلال السنوات الأخيرة.
وتتصاعد شكاوى المشترين في التجمعات السكنية المغلقة من فرض المطورين رسوماً متكررة تحت بنود "فروق الصيانة" رغم دفع مبالغ مالية كبيرة كوديعة للصيانة لدى شراء الوحدة تصل في بعض المشروعات إلى 10% من قيمة العقار، فضلا عن فرض تسعيرة مختلفة لخدمات الكهرباء والمياه والغاز بما يفوق المستويات التي تحددها الدولة وتحصيل مبالغ مالية لدى إجراء أي معاملة تتعلق بالوحدة السكنية، لتتحول هذه التجمعات السكنية إلى مستعمرات خاصة للمطورين العقاريين.
تصدعات في المباني
ولم تقتصر شكاوى المشترين في الكثير من الشركات على هذه الرسوم وإنما باتت حياتهم وأموالهم مهددة بعد اكتشاف تصدعات في المباني التي لم يمض على إنشائها سوى بضع سنوات أو لدى تسلميها للمشترين لعيوب خطيرة في الإنشاء، وفق استشاريين عقارين بارزين.
وما ينذر بتفاقم الأوضاع إعلان إدارات العديد من الكومبوندات في الفترة الأخيرة، عن عدم قدرتها على تشغيل المرافق بداخلها، إذ ربط بعضها ذلك بنفاد ودائع التشغيل التي جمعت من المشترين، عند التعاقد، وأخرى توقفت عن استكمال المشروعات الداخلية، وتركت السكان بلا مياه ولا كهرباء.
بينما علق البرلمان موعد مناقشة قانون المطور العقاري الذي انتظر ملايين المشترين صدوره في مطلع العالم الحالي، لوضع علاقة آمنة تربطهم بمقاولي التشييد وتحميهم من المطورين العقاريين. ويؤكد حسين جمعة، رئيس جمعية حماية الثروة العقارية، على غياب التشريعات التي تحمي مشتري العقارات في مصر، المستهلك العقاري.
ويشير مشترون أسسوا صفحة باسم "شركات سيئة السمعة" على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" للتحذير من الشركات التي يواجه المشترون في مشروعاتها مشاكل تتعلق بجودة البناء وتأخر التسليم أو توصيل المرافق أو إتمام عمليات الصيانة ورسومها.
وتعج الصفحة بالحالات التي تظهر تلاعب المطورين بالعقود، بما يجعلها عقود إذعان للمستهلك، حيث تمكنهم من التلاعب في مساحات الوحدات، وتفرض عليهم غرامات مالية لدى التأخير في السداد ولو ليوم واحد عن موعد دفع الأقساط، أو إلغاء العقد نهائيا، ليتمكنوا من إعادة بيع الوحدة، في سوق يتصف بالارتفاع المستمر في سعر العقار.
فروق صيانة رغم الودائع
كما يحصل المطورون على نحو 10% من قيمة العقد كوديعة، للإنفاق على خدمات اتحاد الشاغلين، تُهدر معظمها قبل أن يستلم السكان وحداتهم. وتلجأ بعض الشركات إلى تحصيل المبلغ نفسه عند بيع الوحدات لطرف ثالث، رغم أنه يسدد عن الوحدة، لمرة واحدة، وتُحَصِّل بعضها ما بين 5% و10% عن البيع كعمولة لإدارة "الكمبوند"، وكأنها تشارك المستهلك في ملكيته، وفق أحد الملاك في كمبوند شهير في مدينة الشيخ زايد، غرب القاهرة، فضل عدم ذكر اسمه.
كما يحذر ملاك كثيرون من تزايد مشاكل المشترين للعقارات، في ظل صعوبة إثبات وتسجيل الملكية، وسوء الإدارة للمشروعات، فضلا عن تحمل المشترين أعباءً ضريبية متعددة، ما يجعل القيمة الاستثمارية للعقار تتضاءل مع مرور الوقت بينما ظل لعقود ماضية من أكثر الأدوات الاستثمارية آماناً وجاذبية.
وفي مقابل أصوات المشتكين الخافتة التي لا تجد صدى لدى الجهات الرسمية في ظل سطوة كبار المطورين العقاريين وقربهم من صانعي القرار في الدولة، تملأ إعلانات المشروعات الكبرى غرب القاهرة وشرقها، لا سيما في العاصمة الإدارية الجديدة، القنوات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي في حملات ترويجية مكثفة لتحريك المبيعات بعروض تقسيط وصلت إلى حد 25 عاماً بعد أن كانت لا تتخطى 12 عاما لدى بعض المطورين من الشركات الكبرى.
وبينما يعاني فقراء مصر من تردي الوضع المعيشي وسوء الخدمات الحكومية الموجهة لهم، متهمين الدولة بالتخلي عنهم، يبدى من يصنفون ضمن الطبقات فوق المتوسطة أو الأغنياء دهشتهم من غياب الدور الرقابي للدولة على المنتجعات السكنية، التي غاب عنها القانون، وعدم الالتزام بحقوق المشترين.
ولطالما جرى الترويج خلال العقود الثلاثة الأخيرة لـ"الكومبوندات" على أنها نموذج سكني يوفر الرفاهية في الخدمات والأمان والتمييز لسكانها. وتعاملت الدولة مع هذه التجمعات العمرانية على أنها "مستعمرات خاصة" يتوقف دورها عند توفر الأرض، لأصحاب الحظوة من مطوريها بأرخص الأسعار، خاصة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وفق خبراء في القطاع العقاري.
فساد في القطاع العقاري
ولكن مع تداعي نظام مبارك في ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، لاحقت قضايا الفساد العديد من كبار المطورين ووزراء ومسؤولين حكوميين. بينما جرت تسويات من قبل العديد من المطورين الكبار مع الدولة، لا سيما في السنوات الثماني الأخيرة مقابل التبرع لصندوق تحيا مصر أو سداد تسويات مالية أو الدخول في شراكة ببعض المشروعات مع الحكومة ممثلة في وزارة الإسكان، بينما يظل المشتري الحلقة الأضعف التي يجرى استنزافها ماليا، وفق استشاري عقاري طلب عدم ذكر اسمه، محذرا من أن هذا الوضع سؤثر حتما بشكل سلبي على السوق بشكل عام، إذ تحولت الدولة إلى "تاجر يتربح من ممارسات غير قانوينة من قبل بعض المطورين".
وبينما تتزايد شكاوى المشترين للعقارات في السنوات الأخيرة من سطوة المطورين في فرض المزيد من الرسوم تحت مسميات "فروق الصيانة" او "الإحلال والتجديد"، باتت التصدعات تهدد مشروعات كبرى لم يمر على إنشائها سوى بضع سنوات بفعل سوء الإنشاء والإفراط في ري المسطحات الخضراء المحيطة بالمباني.
ويكشف الاستشاري الهندسي ممدوح حمزة عن وجود عيوب فنية في كثير من المشروعات العمرانية التي أقيمت في القاهرة الجديدة وحول العاصمة الإدارية، مشيرا إلى أنها بنيت على أرض طفلية أو جيرية، مع وجود تسريب في مياه الصرف أو الري، وعدم عمل "جسات" صحيحة للتربة أو عمل "فرشة خرسانية" عند الإنشاء، بما يعرض الوحدات التي أقيمت عليها للتشقق والانهيار إن لم يكن قبل تسليمها فلن يتأخر عن عدد محدود من السنوات، بعد السكن فيها مباشرة.
في المقابل، يقول عقاريون إنه لا توجد شركة خالية من العيوب، لكن هناك مشاكل عارضة، وحالات فردية، بينما الأهم في رأيهم، ألا تحتال الشركات على العملاء، كما حدث في حالات عدة لم تلتزم فيها شركات بتسليم وحداتها منذ فترة تزيد عن 10 سنوات.
وبدأت الكومبوندات بتقليد أفكار قديمة، نفذتها شركات أجنبية في مطلع القرن الماضي، حينما أقامت شركة إنكليزية حي المعادي، جنوب العاصمة، ومن بعدها شركة غاردن سيتي على ضفاف نهر النيل في القاهرة، والشركة البلجيكية، التي أقامت مدينة هيلوبوليس، عدا شركات المقطم، التي لم تستكمل مسيرتها بسبب قرارات التأميم في ستينيات القرن الماضي.
عهد الاستعمار
لكن الأحياء الخاصة بنيت في عهد الاستعمار بلا أسوار، وظلت مفتوحة على ما حولها، في حين نفذت الحكومة في العهد الجمهوري عددا من المدن السكنية المسورة في محيط دوائر وزاراتها، كمستعمرة الكهرباء في شبرا، غرب القاهرة، والسد العالي (جنوب مصر)، وغيرها من محطات الكهرباء، وسارت على نهجها وزارة الري والسكك الحديدية، والتي بنيت على أساس طبقي وظيفي، تستردها الحكومة حاليا من سكانها بالقوة في حال الخروج على المعاش أو الوفاة.
كما جاءت المناطق السكنية للقوات المسلحة، التي يشرف على تشغليها قادة سابقون، لتجمع بين المناطق المفتوحة والكومبوندات المغلقة التي تحكمها أيضا قوانينها الخاصة.