يكثر الكلام عن أم كلثوم ويقلّ. "الستّ" (1898 - 1975)، التي تمرّ اليوم أربعة عقود على رحيلها، الحاضرة في الوعي العربي برمزية الأيقونة وقوة حضورها اليومي. ألوهة الصوت الذي سُوّدت في مديحه والتبتُّل عند عتبته آلاف الصفحات. كأن الكلام قاصر عن أن يدوِّن المحبة التي تكنّها لها الآذان.
إنها الفلاحة المصرية التي خرجت من جلباب الإنشاد في عشرينيات القرن الماضي، في زمن لم تكن المحاكم المصرية تقبل فيه شهادة "المغنواتي" (فكيف، إذاً، بـ "المغنواتية"؟)، لتصير السيدة الأولى في مصر والوطن العربي، والصوت المعبّر عن أرواح وقلوب وأحاسيس الملايين.
يبدو الكلام عن أم كلثوم وكأنه قد قيل كثيراً من قبل. لكن كل كلام عنها أخذ منحىً جذرياً في المديح أو الهجوم، أو من قبيل "الحواديت" التي تقال عن أسطورتها التي لا تنتهي؛ لا يبتعد كثيراً عن حشرها في أيقونتها والتحلّل مما يحتاجه الإرث الكبير من رعاية وصيانة ومراجعة وتنقيح. إلى درجة لا يبدو معها من المبالغة القول إن لأم كلثوم تراثاً ضائعاً أو على شفا الضياع.
الاستعادات الشائعة لكوكب الشرق لا تجشّم نفسها عناء البحث والدراسة بحيث تصبح الأسطرة معطى خارجياً ولازمنياً، وإلا كيف نفسّر على سبيل المثال عدم وجود سيرة ذاتية علمية لكوكب الشرق وندرة الدراسات النقدية حول فنها وأغنياتها ومسيرتها، وترك الأمر لاستعادات صحافية موسمية.
هذه الأيقنة لم يكن ضررها واقعاً في حقل النقد الموسيقي وحده، لكنه امتد إلى حبسها في نتاج موسيقي متأخر، مؤطّر في وقت حفلاتها المصوّرة، وأغاني المرحلة الأخيرة في حياتها، ما عرّض الكثير من نوادر تراثها الموسيقي الباكر إلى الضياع في أروقة المديح المجّاني.
حتى في عرف الدولة المصرية، تشكّل أم كلثوم رمزاً فنياً استثنائياً يصلح للاستعادة في المناسبات الوطنية الكبيرة، من الأعياد القومية إلى مباريات كرة القدم؛ استعادة تقتصر على ترديد كلام محفوظ عن سيرتها الفنية وعبقريتها، ما يساعد على تكريس فكرة الأيقونة.
حسناً، إذا كان كثير من ذكريات أم كلثوم قابعاً في متحفها في جزيرة الزمالك، الذي يحوي ملابسها ونظاراتها الشهيرة ومجموعة من الصور، يبقى السؤال: ماذا عن تراثها الموسيقي؟ مَن يحفظه؟
في ظل غياب الدولة عن تتبع الأثر الكلثومي، وعدم الاهتمام بتراثها الموسيقي بقدر الاهتمام بصورتها وارتباطاتها بوجاهة الدولة، يقوم محبو "الست" ومريدوها بدور الحافظين لأرشيفها، خصوصاً بعد أن وجدوا في الفضاء الإلكتروني متسعاً لتدوين هذا التراث وتصنيفه. ليس هذا فحسب، بل يقوم هؤلاء بتنقية أرشيف أم كلثوم من شوائب الحفظ الرديء.
إنهم مجموعة كبيرة من المريدين الذين يقومون بجهد مؤسسي هائل وجد آذاناً من جيل جديد صار جزءاً لا بأس منه يفضل الاستماع إلى أم كلثوم البدايات، الباكرة، أم كلثوم النجريدي وزكريا أحمد والقصبجي وسنباطي البدايات، أكثر من تلك المكرّسة إعلامياً.
ولعل من بواكير جهود السمّيعة و"الأرشيفجية" في حفظ تراث أم كلثوم يتمثل في منتدى "سماعي" المهتم بتوثيق الطرب العربي وتدوينه وفتح الجدل حوله.
تنال أم كلثوم نصيباً كبيراً من اشتغال الموقع؛ إذ تحت عنوان "الأيكة الكلثومية" يقوم بترتيب تراثها وحفظها أرشيفجية كبار، مثل كمال عزمي وعيسى متري ومحمد الباز وعصمت النمر، الذين يعملون خارج الحقل الفني لكنهم يشتركون في محبّة التراث الموسيقي العربي عامة وتراث أم كلثوم على وجه التحديد.
على صفحات "الأيكة الكلثومية"، ثمة متحف افتراضي يخص سيدة الغناء العربي، بدءاً من حفلاتها وتصنيفها المكاني (الأزبكيّة وقصر النيل وريفولي وجامعة القاهرة ونادي الضباط وغيرها) والزماني، ثم الأسطوانات والتسجيلات الإذاعية، ثم الحفلات المصورة، مروراً بالتوثيق المكتوب؛ أي ما كُتب عنها في الصحف المصرية والعربية والعالمية، وأرشيف هائل من الصور، إضافة إلى تحليلات النوت الموسيقية.
لعيسى متري اهتمام خاص بتراث أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، بالأخص من الناحية التقنية. فهو يعتمد على جمع التسجيلات وتنقية صوتها وتعديل سرعاتها. السمّيع والمؤرشف الفلسطيني الذي يعيش في المكسيك، لم تنقطع صلته بثومة رغم بعد المسافة، خصوصاً وأنه وجد في منتدى "سماعي" حيّزاً يجمع مريدين يشبهونه. يقول: "منذ سنوات وأنا غارقٌ في أرشيف أم كلثوم. في السابق، كنت أعدّل سرعة تسجيلات الست بوضع منديل قماش مربوط بخيط على إبرة الغرامافون؛ لكن الآن، التكونولوجيا سهّلت عليّ العمل كثيراً".
لا يدّعي متري أنه "مؤرخ" أو "ناقد" موسيقي، بل يفتخر بوصفه "رجل أرشيف". ويقول: "لكل من كمال عزمي ومحمد الباز فضل كبير في جمع تراث الست وأرشفته، أما أنا فغالباً أعمل على تعديل السرعات وضبط الصوت وتنقيته". يضحك "الأرشيفجي" وهو يتذكر ما فعله له الفيسبوك، خصوصاً مع المجموعة التي أسّسها لنشر هذا التراث تحت عنوان "مذياع الأيكة الكلثومية": "لم أكن أتخيل أن جيلاً صغيراً سيهتم بالاستماع إلى أم كلثوم، إلّا أنّ الفيسبوك أثبت لي العكس، فوجدت أنّ كثيراً من المهتمين والمتابعين للصفحة وما يُنشر عليها من صور وتسجيلات هم من الشباب".
إضافة إلى هذا الاشتغال، قام متري بتأسيس تطبيق إذاعيّ لأم كلثوم، وآخر لعبد الوهاب، يمكن تحميلهما على الأجهزة النقالة الحديثة.
من جهته، يعمل زميل متري، المؤرشف عصمت النمر، على تصنيف أغاني أم كلثوم بحسب ملحّنيها ووضعها في راديو على الشبكة الإلكترونية، يوفّر فيه نوادر الست وعبد الوهاب وغيرهما. الراديو يحمل اسم واحدة من شركات الفونوغراف المهمة في أوائل القرن: "مِصرفون".
لا مبالغة في القول إن السمّيعة والأرشفجية المستقلين قدموا لحفظ تراث سيدة الغناء العربي وتداوله أكثر مما قدمته دول ومؤسسات لهذا الإرث المستمر بقوة الحياة اليومية. وهم بلا شك ينقذون هذا التراث من بيروقراطية الدولة ومؤسساتها.
يكثر الكلام عن أم كلثوم ويقلّ، ويبقى قاصراً عن تدوين المحبة.