لا يمكن فصل نشأة علم التاريخ عند العرب عن توّجه السلطة منذ العصر الأموي إلى تدوين الأحداث التي قادت إلى تولّيهم الحكْم، ما يعني لزاماً البدء من شخصية النبي محمد ودعوته إلى الإسلام باعتبارها المشروع المؤسّس للخلافة من بعده.
لم تتبعد عن ذلك كثيراً مدوّنات المعارضة التي عادت، لتثبيت رفضها للأمويّين، إلى حروب العرب القديمة وأيامهم وأنسابهم مفتخرين بانتماء نبيهم والرسالة التي بُعث بها للبشرية وفتوحاته الممتدّة من الصين إلى الأندلس، ناهيك عن ارتباط الكتابة التاريخية بوضع تقويم رسمي، وشعبي أيضاً، للمسلمين في دولتهم الجديدة.
ظهرت في القرن الثالث الهجري مجموعة مؤلّفات حول تاريخ البلدان عُدّت مصدراً أساسياً لمؤرّخي الإسلام، وإن لم توضع لهذا الغرض تحديداً، ومنها كتاب "أخبار مكّة" لمحمد بن إسحاق الفاكهي (839 - 885م)، الذي ركّز على تاريخ المدينة المقدّسة وأخبار قبائلها وحروبها خلال عدّة قرون.
يذهب الباحث المغربي محمد علي أمسكين إلى تتبع روايات السيرة النبوية من خلال تحقيقه للكتاب الذي صدر حديثاً عن "معهد المخطوطات العربية"، كما يقدّم دراسة مفصّلة حول مؤلّفه وسيرة حياته ومنهجيته العلمية، إلى جانب جرد مخطوطه وتصنيفه.
اتكأ الفاكهي في تأليفه على المراجع ذاتها التي استخدمها كتّاب السيرة، متمثّلة بعلم الحديث بعد تجمّع مادة ضخمة من الروايات التاريخية التي تمّ وضعها في مدن عديدة على امتداد العالم الإسلامي، ما أنتج مؤلّفات أنهت مرحلة الإخباريين التي كان غرضها الحكاية، لتُوضع خطوط علم التاريخ الذي اعتمدت على تثبيت الأفكار والآراء حول الماضي.
ينبّه أمسكين إلى إهمال كتّاب التراجم لهذا المخطوط، ما يذكّر بما لاقاه مخطوط كتاب الأزرقي الذي يحمل العنوان ذاته، ورغم أنه لم يصل سوى نصف ما ألّفه الفاكهي في ثلاثة مجلّدات كبيرة إلا أن مادته العلمية وفيرة للباحثين في هذا الموضوع حتى اليوم.
يشير المحقّق إلى سمات ميّزت منهجية الكتاب؛ منها التركيز على المواقع الجغرافية مثل حدود الحرم وجبل مُسْلِم وجامع جبل ثور وقبر ميمونة بنت الحارث وجبل أخشب ومسجد الشجرة، ما يقدّم وصفاً دقيقاً لكثير من معالمهما في تلك الفترة، كما أنه "لم يكرّر الرواية حول حدث ما إلا نادراً، إذ اهتم بتكرار المتون المتقاربة مع تعدّد طرقها مما يزيد الرواية قوّة، خاصة إذا كانت مروية بطريق ضعيف".
وعلى جري العديد من الكتابات التاريخية آنذاك، ذكر الآيات القرآنية المرتبطة بحدث تاريخي معيّن ومنها هجرة الرسول إلى المدينة أو سيَر الغزوات والمعارك التي خاضها، ويتضمّن ذلك جانباً تفسيرياً لتلك الآيات، كما كان يورد القصائد المتعلّقة بتلك الوقائع، حيث يُظهر ولعاً مضاعفاً بها قياساً بمجايليه، في سعي منه لإبراز مكانة الشعر ودوره سياسياً واجتماعياً، ويشرح العديد من المفردات ووضع معانيها بحسب المعاجم أو شروح العلماء لها.
أولى الروايات التي تضمّنها الكتاب وتُعتبر مؤسّسة للسيرة النبوية، كانت حادثة نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده، وفيها يورد حديثين لعبد الله بن أبي سلمة يتّفقان مع ما جاء في "تهذيب سيرة" ابن هشام، لكنه يختلف معها في مواضع أخرى، مثل ذكْره إسلام أبي سفيان ليلاً، خلافاً لما قاله التهذيب بأن ذلك كان نهاراً.
تصبح هذه الاختلافات أكثر قيمة لدى المؤرّخين من بعده في روايات أخرى، فهو ينفرد بتثبيت عدد المهاجرين عند فتح مكة، فيقدّرهم بألفين، بينما كان عدد الأنصار ثمانية أو عشرة آلاف، ويذكر أن العباس عمّ الرسول هو من بلّغ المكيّين بتأمينهم إذا ما لبثوا في بيوتهم وليس أبا سفيان، بل إن العباس بحسب الفاكهي هو من طلب من الرسول أن يخصّ أبا سفيان بشيء.
يخلص أمسكين إلى أن غموض سيرة الفاكهي والتباسها لدى عدد من المؤرّخين يستدعي مواصلة البحث للوصول إلى آثاره أو ما يضيف إليها، لكن ذلك لا يحجب براعته في المزج بين منهج المحدّثين ومنهج المؤرّخين معاً، ويمنح مؤلّفه قيمة مضاعفة بين المراجع العربية في كتابة التأريخ.