مسرح المهرجات في الأردن.. إقصاء الجمهور

29 سبتمبر 2019
من "بحر ورمال" لعبدالسلام قبيلات، 2019 (تصوير: سامي الزعبي)
+ الخط -

تشير معظم الدراسات إلى أن ستينيات القرن الماضي شهدت البدايات الحقيقية للمسرح الأردني، بعد نحو أربعة عقود تخلّلتها محاولات فردية لبعض المبدعين في المدارس ودور المعلمين، حتى أُنشئت "الجامعة الأردنية" التي احتضنت كلياتها عروضاً قدّمها عدد من المحترفين الذين تلقّوا تعليماً أو تدريباً حديثاً.

في الفترة نفسها، برز المسرحي الراحل هاني صنوبر (1934 - 2000) الذي أتى من دمشق بعد أن أسّس المسرح القومي هناك، ليطلق فرقة "أسرة المسرح الأردني" موظِفاً إمكانياته، وهو الذي نال درجة الماجستير في المسرح والدراما من الولايات المتحدة، وكانت معظم أعماله مقتبسة من نصوص عالمية مثل "مروحة الليدي وندرمير"، و"البرجوازي النبيل".

تميّز العقدان اللاحقان بمزيد من التخصّص والتجريب مع إنشاء أول قسم لتدريس التمثيل والإخراج في الأردن، وكان في "جامعة اليرموك"، وصعدت تجارب بات لها حضور عربي أكبر؛ مثل خالد الطريفي، ونبيل نجم، وحاتم السيد، وصولاً إلى التسعينيات التي ظهرت فيها مهرجانات متخصّصة في مسرح المحترفين، والشباب، والطفل.

كان الهدف من إنشاء هذه التظاهرات التخفيف من الحصار الذي عاشته الدراما التلفزيونية إثر حرب الخليج عام 1991، بغية تنشيط الحركة المسرحية التي تُعتبر الرافد الأول للفنون الدرامية الأخرى، لكن تلك الخطوة أضافت حصاراً آخر تمثّل في عزل المسرح عن جمهوره، عبر إنتاج عروض تُقدَّم فقط لروّاد المهرجانات ضمن حالة مصطنعة لم تُفض إلى أية إضافة أو تطور.

تقف "العربي الجديد" عند واقع المسرح الأردني اليوم، من خلال مساءلة عدد من المشتغلين فيه، والذين يقاربون المشهد من زوايا مختلفة لا تنفصل عن حركة المجتمع وهواجسه وتطلعاته، أو عن السياسة التي تؤثّر وتتأثّر بالثقافة والفن في كل مكان.


حالة احتفالية مصطنعة
يشير الفنان رشيد ملحس (1967) إلى المسرح كجزء من الحالة الثقافية التي تعرّضت إلى نوع من الإزاحة عن مسارها التطورّي الطبيعي، وأتى الهجوم عليها من جهتين؛ الأولى حكومية رسمية تتخوف من أن يحمل العاملون في الثقافة أفكاراً معارضة، فكان هناك تدخّل في قطاع الأدب والفنون، لمنع أي خطاب في هذا الإطار، مع فرض الأحكام العرفية عام 1958.

أما الجهة الثانية، بحسب مخرج "كلام جرايد"، فتمثّلت في تيارات الإسلام السياسي التي تعادي أي خطاب ثقافي قد يحمل نفساً تحررياً أو يسارياً، وتجلّى ذلك حين مُنعت جميع القوى المعارضة باستثناء هذه التيارات التي سلّمت وزارة التربية والتعليم.

ويرى أن هذه الحالة "أقصت إمكانية وجود إبداع حقيقي يتقصّد التحرّر، وتمّت رعاية أنصاف وأرباع المواهب رسمياً، وتكرّست نخبة ثقافية لا صلة لها بالفن أو الواقع"، موضحاً أنه "لم تعد هناك خطة واضحة، وتمّت إزاحة المسار نحو حالة احتفالية هي المهرجانات، تشغّل حلقة ضيقة من المحسوبين على نقابة الفنانين ووزارة الثقافة وتخضع لحسابات شللية ولمنطق الربح والخسارة".

وينبّه ملحس إلى أنه "لم يخطر ببال المؤسسة الرسمية إيجاد هذه الاستراتيجية التي تنظّم الثقافة، ما جعلنا ندفع الثمن اليوم، حيث إن ما يُنتج ثقافياً لا يتناسب مع العصر الذي يشهد انهياراً أخلاقياً وقيمياً، وأغلب ما يُقدّم من أعمال مسرحية ضعيف على المستوى الفكري والمقولات التي تُطرح والقيم التي تتبناها"، مضيفاً أن "معظم أصحابها ليسوا متخصّصين في المسرح، حيث لم تعد الجامعات الأردنية تخرّج كفاءات فنية نوعية، نظراً لضعف الكوادر التدريسية، وغياب أية رؤية لكليات الفنون، لتكون الحصيلة أفراداً جيّدين ومبدعين، لكنهم لا يشكّلون حالة جماعية ومؤسّساتية".

يختم: "رغم وجود بدايات مشجعة حين كان هاني صنوبر يقود جيشاً من الحالمين بالمسرح، إلا أن ما انتهينا إليه هو "تقرير إنجاز عمل" يقوم به موظفون على نحو شكلي ودعائي ومصطنع، وكلما صعدت أية حالة مسرحية حقيقية، سرعان ما يجري التآمر لإنهائها ومحاربتها عبر التشكيك في نواياها والأفكار التي تطرحها".


مسرح غير مجاني
أما المخرج عبد السلام قبيلات، فيلفت إلى أن "هناك حالة انفضاض من قبل جمهور المسرح بسبب العروض المسرحية التي تُسمّى اعتباطاً "تجريبية" وهي بعيدة عن التجريب، حيث اعتمدت المؤسسة الرسمية دعم بعض المخرجين من أجل تنفيعهم في مهرجانات عبر اختصار تكلفة الإنتاج وتقديم عروض بعناصر مفقودة وضعف في التمثيل، وتقديمها لمرة أو مرتين، مثل فنان يفتتح معرضه ثم يُلقي بأعماله بعد ذلك إلى الشارع، أو كاتب يُصدر مؤلّفه ثم يرميه في سلّة المهملات".

بحسب مخرج "بحر ورمال"، جرى الاكتفاء بجمهور المهرجانات الذي "يتألّف من فنانين يشاهدون أعمال بعضهم بعضاً من أجل المجاملة وإدامة اللعبة ذاتها، بشكل يناسب منظّمين يخدعون ذاتهم ومؤسّساتهم التي يمثّلونها، عبر دعوة فنّانين عرب يتبادلون معهم المشاركات والدعوات، ضمن سيطرة تامة تعيق بدورها أية إمكانية لتطوير المسرح".

يعتقد قبيلات أن "الحركة المسرحية غير موجودة في الأردن، ووجودها مشروط بعاملين مجتمعين؛ الأول وجود مسرحيات بعروض منتظمة على مدار العام، وثانيهما جمهور يبتاع تذكرة لمشاهدة العرض، والمقصود هنا ليس البعد التجاري، بل أن يكون عن قرار ورغبة مسبقة بحضور المسرح".

يتابع: "هناك أيضاً ظاهرة المسرحيات التي تُعرض في مهرجانات تقام في المحافظات، خارج العاصمة، وهي تنظّم بالطريقة نفسها عبر تجميع الجمهور وتقديم عروض مجانية لهم، وهي سياسة تسيء إلى المسرح والثقافة معاً، بينما لا تشهد الجامعات نشاطاً مسرحياً بسبب ضعف الكوادر التدريسية".

يرى مخرج "إدفع ما بدفع"، أن الخروج من المأزق يكون عبر سياسة المواجهة مع الجمهور وليس الهروب منه، فلا مسرح بدونه، ويكون ذلك بتأسيس هيئة مستقلة توفّر عروضاً دائمة بشباك تذاكر، ومن يصمد عرضه لفترة أكبر أمام الجمهور يشارك في المهرجانات.


تشويه المصطلحات
يذهب الباحث والمخرج مؤيد حمزة إلى القول إن "الفنان الأردني استسهل التعامل مع المهرجان المسرحي، وصار بالنسبة إليه مجرد شبيه بالتمثيل في التلفزيون أو الإذاعة، حيث الجمهور هو الكاميرا، وفي كلتا الحالتين هناك ضمان للدفع فور الانتهاء من تقديم العمل المسرحي، كما يجري استلام الأجر فور الانتهاء من تصوير المشاهد أو العمل أو بيعه بالنسبة للدراما التلفزيونية".

يؤكد صاحب كتاب "المسرح الشرْطي" أن "الممثل المسرحي أو المخرج، أو حتى الجمهور، لم يختبر الحياة المسرحية بمعناها الحقيقي، والذي يعتمد على الموسم المسرحي والريبرتوار (جدول العروض المسرحية المزمع عرضها طوال العام)، وأيضاً لم يختبر المخرج ولا الفنان المسرحي، في الغالب الوقوف، أمام جمهور مستعدّ لدفع ثمن تذكرة، وبالتالي معرفة مدى نجاح عمله من عدمه، وصار يكتفي بجمهور يأتي بدافع المجاملة أو التشجيع لفريق العمل، حتى مع المعرفة المسبقة بأن لا شيء يستحق المشاهدة".

ويشير إلى أن "عملية مُحكَمة قامت في سبيل تشويه المصطلحات، وتحديداً من خلال تعمُّد إطلاق صفة الموسم المسرحي على أكثر من مهرجان، حتى غاب المعنى عن أذهان المسرحيّين أنفسهم، والذين نسوا أن الموسم المسرحي يفترض أن يغطي معظم فترات العام مع ضمان وجود عطلة لراحة الفنان قد يستغلّها في العمل مع فرق أخرى أو في السينما والتلفزيون، أو حتى القيام بجولات فنية داخل وخارج البلد".

يضيف: "المَبالغ التي تُنفَق على المهرجانات في الأردن قادرة على أن تؤسّس فرقاً وطنية تُقاد من قبل مخرجين خبراء في التعامل مع الفن المسرحي الجماهيري، وتقدّم عروضاً مدفوعة الأجر، بدلاً من هدر إمكانيات وزارة الثقافة لدعم المثقّف، وفي هذه الحالة الفنان المسرحي".

ويبيّن مؤلّف مسرحية "رقصة الأمم" أن "مشكلة وزارة الثقافة الأردنية تكمن في المنهج الذي تتبعه، إذ تعتقد أن واجبها دعم المثقّف والفنان، وليس الارتقاء بثقافة الإنسان، حيث ثبت أن هذا المنهج المتوارث بحاجة إلى قرارات جريئة تغيّره، عبر إعادة النظر في الضرائب المفروضة على المسارح التجارية، غير الحكومية، وعروضها".

المساهمون