روبير دوانو.. ما هو جميل في قرن كالح

02 يونيو 2019
(من صور دوانو)
+ الخط -

وقعت أحداث عظيمة في القرن الماضي؛ منها حربان أبادتا الملايين من البشر وخلّفتا البؤس والفقر والدمار، وقنبلة نوويّة ارتجّ بفعلها التاريخ الإنساني واختلّ نظامه. لكنّ المصوّر الفرنسي روبير دوانو (1912 - 1994) أدار ظهره لكلّ ما جرى، ولم يأبه بتدوين الأحداث العظمى ولا بما خلّفته وراءها. على العكس، وربما هذا هو سرّه، راح يصطاد لحظات البهجة والمرح بين الناس البسطاء، يخلّدها فتخلّده، ليمنحنا رؤية مختلفة لهذا القرن الكالح.

هذا هو سبب الاهتمام الدائم بصور "صائد اللقطات" و"شاعر الصورة" دوانو، الذي يقام له حالياً في مدينة تريستا، الواقعة شمال إيطاليا، معرض مكوّن من 88 صورة، يتواصل حتى 23 حزيران/ يونيو الجاري.

"إن ما خلّدتْه الصورة إلى ما لا نهاية كان قد وقع مرّةً واحدة، فهي إذاً تكرّر ما لا يمكن أن يتكرّر أبداً في الوجود" هذا ما قاله السيميولوجي الفرنسي رولان بارت، وهو تماماً ما جهد دوانو في صنعه، بل صرّح به دون مواربة، حين قال: "لم أسأل نفسي قط عمّا يدفعني لالتقاط الصور. في الحقيقة كنت أخوض صراعاً، حتى آخر نفس، مع فكرة أنّنا ماضون إلى العدم. كنتُ قد حزمت أمري على إيقاف خرير الزمن، وأنا أدرك أنّه فعل جنوني بحت".

أمّا ما كان ينتشله دوانو من العدم ويضعه بين يدي الخلود فلم يكن سوى نظرة طفلٍ ساهم، أو ابتسامة عابرة أو قبْلة مسروقة. لم يحفل بصراعات الدول الكبرى، بصواريخها وقتلاها، ولا بما اجترته الحروب من خراب ودمار. بل كان في بحث دائم ودؤوب عن الحيوات الصغرى، بين أزقة الأحياء المعدومة والمنسيّة على أطراف/ هامش باريس الجمال والفن والثراء. وقد جسّد دوانو المعنى الحقيقي لكلمة صورة، بمعناها الإغريقي، إذ إنّ كلمة "فوتوغرافيا" تتكوّن من (photos) وتعني ضوءاً، و(graphia) وتعني كتابة، لتكون "الكتابة بالضوء" أو "الرسم بالضوء". هذا بالضبط ما قام به دوانو، إذ رسم بالضوء والظل (يوم كانت الصورة بالأسود والأبيض) لوحات الحياة اليوميّة الباريسيّة.

وُلد صائد "اللحظة الخالدة"، وهو وصف أطلقه صديقه الشاعر جاك بريفير، في بلدة جنتيلي الواقعة على أطراف باريس. ماتتْ والدته وهو لا يزال صبيّاً، فتزوّج أبوه امرأة أخرى كانت تسيء معاملته، ما اضطره إلى قضاء معظم الوقت خارج البيت، متجوّلاً في شوارع الأحياء الشعبية. وربمّا لم يع دوانو - حينها - أنّ هذا ما سيفعله في ما بعد من أجل فنّه، أو لعلّ ذلك التجوال هو ما ولّد، في لا وعْيه، ولعه بتلك المشاهد اليومية البسيطة كان يؤثّث المادة الخام لأعماله الفنّية.

بدأ شغفه بالتصوير عام 1929، فعمل في مكتب التصوير الإعلاني لأندريه فينيو، وبعد عام عمل مصوّر إعلانات لشركة رينو لصناعة السيّارات، واستمرّ كذلك حتى 1939. شارك في الحرب العالميّة الثانية، بعد انضمامه إلى الجيش الفرنسي، ثم انضمّ إلى صفوف المقاومة ضدّ قوات فيرماخت الألمانية التي احتلّت فرنسا عام 1940. وفي عام 1949، أصبح مصوّراً لمجلّة "فوغ" الشهيرة التي تعنى بالموضة، إلا أنّه ترك العمل فيها عام 1952. سهّلتْ له هذه المجلة الولوج إلى صالونات ونوادي المجتمع الباريسي الرفيع، إلّا أنه لم يشعر بأيّ انتماء لتلك الطبقات، ولم ينظر إليها بعين الرضا.

ولم تكنْ الغاية من أعماله تلك، سواء لحساب الشركات أو المجلّات، مع ارتباطها المباشر بمهنته المحببة، إلّا لسدّ حاجته من المال. أما فنّه الذي يحبّ إنجازه، فقد كان يسرق له الوقت من عمله الرسمي، ويذهب في تجواله لاصطياد لحظات أولئك الناس الذين يعيشون على الهامش. كان يتجوّل في الطرقات بحثاً عن الصورة/ الحكاية، الحكاية الإنسانية، في لحظة عابرة، فيجسّد الجمال والحب والبؤس والبهجة وكل ما يبث دماً ولحماً في الحياة. وصوره بالفعل تشكّل فعلاً حكائيّاً، تبدو لناظرها وكأنها مشهد حي، يفيض إنسانيّة وحياة، وشخوصها تتحرّك أو تكاد. هذا تماماً ما جعل من فنّه إنسانيّاً، في قرن حدثت فيه أعظم الأحداث المرعبة في تاريخ البشر، لذا فقد عُدّ دوانو أحد عمالقة ما تسمّى "الصورة الإنسانية". وقد كان يصوّر الأيقونات الباريسية آنذاك، بحكم عمله، ويصوّر كلّ ما تبقى بفعل شغفه، فاستطاع أن يمنحنا صورة متكاملة عن باريس زمانه، في طبقاتها المختلفة وشخصياتها المتنوعة.

ومع أنّه صوّر الكثير من شخصيات الفن والثقافة آنذاك، مثل بيكاسو، وجون فيتري، وفرناند ليجه، وجاك بريفير، وريمون كينو، إلا أنّ الأعمال التي خلّدته كانت لأشخاصٍ عاديّين، لحظات تصطادها عدسته في أجزاء ثوانٍ، لتظلّ خالدة. ولا يخفى على أيّ شخصٍ، وإن كان لا يعرف هويّة المصوّر، الصورة الشهيرة "قبلة أمام فندق دي ڤيل"، والتي أصبحتْ من أشهر الصور في العالم، وطبعت منها الملايين من النسخ. ولم تكن تلك إلّا واحدة من آلاف الصور الأخرى التي أرشفت الحياة في باريس القرن الماضي، إذ يقدّر عدد الصور التي التقطها دوانو بــ45 ألف صورة.

الأعمال التي تُعرض في تريستا، والتي جالت قبل ذلك في مدن إيطالية مختلفة، لا تشتمل على لقطات للمشاهير أو الشخصيات الباريسية الرفيعة، بل على لقطاتٍ لأناسٍ لا أحد يعرف هويّتهم. صور متفرقة لكنّها إذا ما وضعت مع بعض فهي تقدّم مشهداً متكاملاً عن القرن العشرين. لوحة عن عالم وصفه المصوّر ببضع كلمات: "كنتُ أحاول أن أعرض عالماً أشعر فيه بالارتياح، يعيشُ فيه أشخاصٌ طيّبون، وأجد فيه المودّة التي كنتُ آمل. وقد كانت صوري دليلاً على أنّ هذا العالم يمكن أن يوجد". رحل دوانو عن هذا العالم عام 1994، كان يعلم أنه ترك وراءه ما سيخلّد اسمه ويخلّد المرحلة التي عاشها وبعضاً من الناس الذين عاصروها.


* شاعر ومترجم عراقي مقيم في إيطاليا

المساهمون