معهد اللغات الشرقية يراجع تاريخه

11 يونيو 2019
(مخطوط "مقامات الحريري" من "مكتبة فرنسا الوطنية" في باريس)
+ الخط -

تعود جذور "معهد اللغات الشرقية" في باريس إلى حكم فرانسوا الأول (1494 - 1547)، ملك فرنسا، الذي أوعز إلى غيوم بودي بإنشاء "الكولاج دي فرانس" لدعم التبادل الدبلوماسي والتجاري مع بلاد الشرق. وما لبث أن توسَّع بعد اندماجه، سنة 1669، مع "مدرسة الشباب للغات" التي أنشأها كولبار لتدريب مُترجمي الشرق.

وفي سنة 1795، حُوّل الكولاج إلى مدرسة مختصّة بتدريس اللغات الشرقية؛ كالعربية والتركية والتترية والفارسية... وفي تلك الحقبة، زاره رفاعة الطهطاوي ووصفه بالقول: "في باريس "كوليج" آخر يُسمّى "كوليج الفرنساوية السلطاني"، وهو أعظمُ جَميعِها (...) وفيه تُعلَّم اللغات: العربية والفارسية والتركية والعبرانية والسريانية والهندسة ولغة أهل الصين وعلومهم ولغة التتار والحكمة اليونانية التي هي فلسفة اليونان وعلم الفصاحة والبلاغة في اللسان اللاطيني وعلوم بلاغة اللغة الفرنساوية، وهذا "الكوليج" يشتمل على أكابر المدرّسين وفيه ستة آلاف طالب".

وما فتر عدد اللغات الشرقية يتزايد في أروقة هذا المعهد، ومناهجُ دراستها تتعمّق، لاسيما بعد 1874 حيث استقرّ في مبنى فخمٍ بقلب الحي اللاتيني. ثم حمل منذ سنة 1914 اسم "المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية"، ودُمجت بدورها ضمن المنظومة الجامعية الفرنسية سنة 1968. وانتقلت منذ تسع سنواتٍ إلى مبنى جديدٍ، في أطراف الحي اللاتيني، يضمّ كافة الأقسام بعد تفرّقها في مبانٍ متباعدة. وتُدرَّس اليوم فيه 93 لغة شرقية، بالمعنى الموسّع للكلمة الذي يشمل كلّ ما ليس بغربي مثل ألسن أوروبا الوسطى وآسيا ودول المحيط، فضلاً عن بلدان أفريقيا. وهو يضم مكتبةً اسمها "بولاق"، وهذا من عجيب الاتفاق، تضم آلاف الكتب والمخطوطات النادرة.

وقد خضع المعهد، كما تخضع أية مؤسّسة تعليمية وبحثية، إلى إملاءات السياسة وضغوط اللاشعور الجمعي وتقلّبات الأهواء في تعاملها مع الضاد ضمن السياق الفرنسي؛ ففي العقود الأولى من نشأته، كانت الغاية الأساسية منه تهيئة الطلّاب لحذق الترجمة والتواصل الشفوي ضمن علاقات تجارية ودبلوماسية مباشرة مع المشرق من دون المرور بالوسطاء المحليّين. ثم وقعَ التركيز على الفصحى بوصفها اللغة الكلاسيكية، فَدُرِّست مقطوعةً عن واقعها المعاصر وعمّا طرأ عليها من تغيّراتٍ متسارعة، ولاسيما في القرن الماضي.

كما نُظر إليها على أنها لغة مكتوبة فحسب، لا وجود لها خارج المخطوطات وكرّاسات قلّة من الكتّاب الذين اختاروا إحياءها. وصار التخصّص الأمثل، الذي تُهيّأ له مُقرراتُ هذا المعهد، المنهج الفيلولوجي المتمثّل في معالجة النصوص وفكّ شفراتها لإخراجها مُحقَّقة إلى عالَم النشر.

وقد نشّط هذا التصوُّر للثقافة العربية العالمة حقول الدراسات الإسلامية في صيغتها الاستشراقية وساعد على طباعة النصوص القديمة وترجمتها وفهرستها، فنبغت بين مُدرّسي المعهد ثلةٌ من كبار المستعربين مثل شارل بِلا (1914 - 1992)، وجيرار لوكنت (1926 - 1997)، وجيرار تروبو (1927 - 2010)، ولوك دوهفالس، وكاترين مايير، وإليهم يعود الفضل في نشر العديد من نفائس المخطوطات.

وأما مشاركة الأساتذة العرب في هذا المعهد فقد كانت في البداية محتشمة، تقتصر على وظيفة "المُعيد"، على أن تكون الضاد لغتَه الأم. ويتمثل دوره في تلقين الطلبة مبادئ النطق والقراءة. وما هي إلا أن تهاوى هذا المحظور، فتعاقب على المدارج أساتذةٌ مقتدرون من أصول عربية أجادوا مع زملائهم الفرنسيين وأفادوا. واشتهر منهم باحثون على المستوى العالمي مثل محمد العفيف بن عبد السلام وعيادي شابير وكاظم جهاد وجورجين أيوب وصبحي بستاني...وغيرهم كُثرٌ، لا يَسع المجال لذكرهم.

وفي المقابل، وكأنما هي ردة فعل على التوجّه للمكتوب، أحدث "معهد اللغات الشرقية" قسماً خاصّاً باللهجات وشجّعَ العمل عليها بوصفها "اللغة الحية" الوحيدة للعرب. ويتضمّن أربعة فروع تدرّس اللهجات المغاربية والشامية والخليجية والمصرية، وحتى المالطية بما هي سليلة الدارجة التونسية. وكان وليام مارسي (1872 - 1956) وابنه فيليب (1910 - 1984)، ومن مُعاصرينا جاكلين كوبيه وجيروم لونتان ممن برعوا في هذا الميدان وصاغوا عن لهجاتنا أمتن الدراسات.

ومن اللافت أنّ المعهد كان مسرحاً لصراعات عنيفة، نشبت بين أساتذة القِسميْن (الفصيح والدارج) حول شرعيّة وجودهما وأهمية السِّجلَّيْن في درس الثقافة وحقيقة التواصل. ولكلٍّ براهينُهُ التي يدافع بها عن توجُّهه. وكان لتلك المعارك صدًى حتى في الصحافة الوطنية الفرنسية، بل واستُدرج إلى حلباتها رجالُ السياسة. ولأمرٍ ما، كانت أهواء عامّتهم مع تشجيع اللهجات والتحفُّظ على الفصحى. وبقي التعليم مقسّماً بين هذين الاتجاهين بحسب الكفاءات المنشودة.

وفي القسميْن، كان يُنظَر إلى العربية خصوصاً وإلى لغات الشرق عموماً من منظور المركزية الفرنسية ومقولاتها الثقافية واللغوية، بما أنّ تدريسها يتمّ باللسان الفرنسي مع التركيز على تحليل النصوص الأدبية والمضامين اللغوية على ضوء مبادئ النحو الفرنسي وقواعده النظرية. ومثلُ ذلك المضارع المنصوب الذي يقدّم كما لو كان مقابلاً لـ subjonctif وتدريس الأوزان الاشتقاقية بإسناد أرقامٍ لها، فوزن "فَعَّل" يقابله رقم 2، وهكذا حتى وزن "استفعل" الذي يناسبه رقم 10. ولهذا التمشّي شرعيته؛ لأنّ التعليم موجّه إلى فرنسيّين مبتدئين، ليس لهم أية خلفيّة عربية، ويستحيل شرح قواعد النحو لهم بمصطلحاتها الوَعرة.

وعلى صعيد آخر، يتأصّل المعهد، ضمن النسيج الاجتماعي والثقافي لمدينة باريس وضواحيها، كقلعة للنظر العلمي والمنهجي للحضارة واللغة العربيتين. وصار يواجه، وربما بشكل عفوي، كلّ المراكز والجمعيات الخاصة التي تدرّس العربية، وقد يَنظر إليها كنقيض له ومنافسٍ. وقد يضخّم من نقائصها فينتقد امتزاج مقرّراتها بالأفكار الدينية ولاعلمية مقارباتها وغياب الوثائق البيداغوجية المناسبة، ولهذه الانتقادات وجاهةٌ ما.

وقد تجلّى هذا الجدل الصامت، طيلة السنوات التي أعقبت أحداث 11 أيلول، إذ شهد المعهد خلالها هجمة كبرى من قبل أبناء الجيل الثاني والثالث للهجرة الذين راموا التعرّف على حضارة الإسلام واستنطاق نصوصها لفهم ما حَصل.

وفي السنوات الأخيرة، انفتح المعهد على نظريّات الترجمة والمعلوميات التطبيقية الخاصة بالضاد، فضلاً عن مصطلحات الصحافة والاقتصاد والتجارة والقانون والدبلوماسية. فقد زوّد هذا المعهد فرنسا بغالبية رجال السلك الدبلوماسي الذين جابوا الأقطار دفاعاً عن سياساتها الخارجية. وقلّما تخرَّج، من غير فصوله ومناهجه، الدبلوماسيون، حتى عُدّ المرور في أروقته والحصول على شهادته ضمانة البراعة والتفوّق. بل لا تفهم بعض سياسات فرنسا الخارجية إلا على ضوء المقاربة الإنسانية للثقافات الأجنبية التي تدرَّس فيه.

وهكذا، ساير المعهد في تاريخه الطويل ما عرفته الضاد من تحولات سريعة، ولا يزال يقاربها من خلال ثلاثية: اللغة والأدب والحضارة. وهي مغامرة شائكة نجح المعهد في بعض فصولها وفشل في بعضها الآخر. ولكن، لا أحدَ ينكر فرادة هذه الدار ومجهوداتها في خدمة الضاد، على ما فيها من هناتٍ هي أعلم الناس بها.

المساهمون