في الغالب، يقتصر الكلام عن هجرة العرب إلى إيطاليا في وسائل الإعلام على مسائل السياسة، بين غياب الأمن والتنمية في الجنوب والعنصرية في الشمال، وهو ما يخفي وجوهاً أخرى للحضور العربي في إيطاليا. فمن النادر مثلاً أن نسمع عن مثقفين عرب هاجروا إلى بلاد دانتي ولهم مساهمات إبداعية فيها. فبعد مرحلة أولى للهجرة كان فيها توفير المعيشة الهاجس الرئيسي للمهاجر العربي، بدأ بعض المقيمين في إيطاليا يبرزون في أطر أخرى، منها ممارسة الكتابة الإبداعية وذلك باللغة الإيطالية نفسها.
ويمكن القول إن كتابات العرب بالإيطالية مباشرة تعود إلى عشرين سنة تقريباً، حين صدرت كتب بالإيطالية لمؤلفين عرب، وكان الموضوع الأبرز هو الحديث عن تجاربهم مع الهجرة والتعبير عن الحنين إلى أوطانهم. في البداية كانت هذه الأعمال قليلة، ثم ازداد عددها في السنوات الأخيرة، ولاقت اهتمام النقاد الذين قاموا بدراسة هذه الفئة الأدبية الجديدة، وابتدعوا لها أسماء مختلفة مثل "الأدب الإيطالي المولود" و"أدب الهجرة في إيطاليا" إلى غير ذلك.
ما يميّز هذا الأدب هو لغة هؤلاء الكتّاب، فالخلفية العربية تتجلى في الأسلوب وفي المواضيع وطرق تناولها، وهذا يحدث تحوّلات في لغة الأدب، كما يقول بذلك الناقد الأدبي الروسي ميخائيل باختين. فالكاتب الأجنبي الذي يكتب بالإيطالية يكتب باللغة الإيطالية بطريقة جديدة، ولذلك يمثّل هذا الأدب "أدب تحوّل" لأنه نموذج عن التجانس الأدبي والفكري بين ثقافتين.
من بين هؤلاء الكتّاب العرب الذين يكتبون بالإيطالية نذكر عمارة لخوص الذي ألّف عدّة روايات، لكن شهرته ظلّت مرتبطة بروايته الأولى "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضّك" وقد تُرجمت إلى لغات مختلفة من بينها العربية. وكان سرّ نجاح هذه الرواية هو موضوع القصة أكثر من أسلوبها وبناء شخصياتها. ومع أن لخوص لم يكن الكاتب العربي الأول الذي يكتب بالإيطالية، فإنه من الممكن القول إنه من فتح الطريق أمام أعمال أخرى كتبها كتاب عرب بالإيطالية.
ولم يقتصر تأليف هؤلاء العرب على الرواية وحدها، بل نجد لهم مؤلفات في مجالي القصّة والشعر، بل إن الأخير يعدّ النوع المفضل للإبداع بالنسبة لهم. من بين من كتبوا الشعر بالإيطالية نذكر الشاعر محمد لمسوني الذي صدرت له مجموعة شعرية قيّمة بعنوان "قصائد من طورينو". أمّا في مجال القصة، فنذكر الكاتب يوسف وقاص الذي بدأ تجربته مع الإيطالية بكتابة عدّة قصص قصيرة، وكتب كذلك رواية بعنوان "على طريق برلين". ونال "جائزة إكسيترا" الخاصة بمؤلفات اللغة الإيطالية لغير الناطقين بها.
ويعود أصل هؤلاء الكتاب العرب إلى بلدان عربية مختلفة؛ فمثلاً عمارة لخوص من الجزائر، ومحمد لمسوني من المغرب، ويوسف وقاص من سورية، إضافة إلى جنسيات عربية أخرى كثيرة، وذلك عامل تنوّع آخر في الأدب الذي يكتبه العرب بالإيطالية.
وجدير بالذكر أن هذه الإصدارات راحت تغيّر المشهد الأدبي الإيطالي وتعيد ترتيب ذائقته حول الأدب الأجنبي، بل يمكن القول إن أعمال الكتّاب العرب بالإيطالية تساهم في بناء الأدب الإيطالي في أيامنا هذه، كما ساهم أجدادهم العرب في تأسيس الدولة الإيطالية خلال حرب الاستقلال الثالثة سنة 1860، حيث كافحوا إلى جانب الإيطاليين ضمن جيش نابوليون الثالث الذي أتى من فرنسا لدعم مشروع تخليص إيطاليا من الهيمنة النمساوية، وبقي بعضهم في إيطاليا بعد تلك الحرب. وهذا يعني أن العرب كما شاركوا في استقلال إيطاليا في الماضي، ها هم يساهمون اليوم في تلوين المشهد الأدبي الإيطالي.
* ناقدة وأكاديمية إيطالية