استعادة غالب هلسا.. أسئلة الثلاثين

18 ديسمبر 2019
(1932 - 1989)
+ الخط -

في التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر عام 1989، سيعود غالب هلسا إلى وطنه بعد غياب جاوز ثلاثة عقود، لكن هذه المرة "دخل متوفياً" كما يوضّح الختم على وثيقة سفره، لتبدأ محاولات استرجاعه ضمن أكثر من منظور، ما أحاط صورته بالتباسات عديدة.

انشغل بعض الدارسين لسيرته وأعماله، بحضور الأردن فيها أو تمثيل الراحل لأردنيته، لأسباب مختلفة يتعلّق بعضها بالمكانة العربية التي حظي بها، وكانت غير مسبوقة بالنسبة إلى المشهد الثقافي الأردني، ويبدو ذلك متفهّماً، إلا أنه لا يشكّل أساس انشغاله كمثقّف عضوي برؤية شيوعية، كان يرى نفسه فوق الدول القُطرية التي أقام فيها وتفاعل معها؛ مصر والعراق ولبنان وسورية تحديداً.

الأهمّ من ذلك كلّه، أن ذلك المثقف لم يجد غير القاهرة، حاضرة كوزموبولتية ذات طبقات متعدّدة ينتمي إليها، بوصفها فضاء رئيساً لخمس من رواياته، هي: "الضحك" و"الخماسين" و"السؤال" و"البكاء على الأطلال" و"الروائيون"، بينما لم تحضر العاصمة العراقية إلا في رواية "ثلاثة وجوه لبغداد"، والأردن في "سلطانة"؛ الرواية التي كتبها متأخراً ونُشرت قبل رحيله بعامين، وتحيل إلى طفولته كفردوس مفقود خلق لديه تلك الروح الثائرة.

وتحضر الجغرافيا والحدث الأردنيان أيضاً في ثلاثة نصوص قصصية هي: "وديع والقديسة ميلادة" و"البشعة" و"زنوج وبدو وفلاحون"، وفي الأخيرة يعود إلى تحليل العلاقات بين مكوّنات المجتمع الأردني، لكن الرغبة في التأكيد على علاقة الكاتب بأردنه ستظلّ قائمة، ما يفسّر نفاد الجزء الثالث من أعماله الروائية الكاملة في طبعتها الأولى، لأنها تضمّ "سلطانة" وقد يتكرّر الأمر في الطبعات المقبلة.

هل مثّل الأردن هاجساً وسؤالاً لدى صاحب "المكان في الرواية العربية"؟ الإجابة عنه ليست حاسمة وقطعية فقد تملّكه الحنين إلى مكانه الأول وكتابة مسوّدات "سلطانة"؛ مسقط رأسه، أثناء حصار بيروت عام 1982 – كما يروي في إحدى مقابلاته الصحافية، بمعنى أن مساحة حلمية شدّته في عزّ المعركة، لكنها لم تصل إلى درجة الذهاب نحو الاشتباك مثلما فعل في رواياته "المصرية"، حيث كان معنياً بتشريح العلاقات الاجتماعية وأبعادها السياسية والثقافية، وإسقاطاتها النفسية.

ولا يُنسى هنا، التفات غالب إلى رواية "أنت منذ اليوم" لتيسير سبول، والذي يعني دون شكّ انتباهاً إلى واحدة من أولى التجارب الروائية الأردنية وألمعها، مع ربطها بالواقع العربي بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967 وكيف قادنا "العبث" إلى "الفاجعة"، بحسب تحليله للبنى الاجتماعية المسؤولة عن الهزيمة، بمعنى أن تبشيره بالرواية كونها "تبرز الوظيفة الخطيرة للأدب الجيد: إنه يقدم لنا تجاربنا الخالية من الحياة والمعنى ليشحنها بطاقة معرفية هائلة"، ويمكن استيعاب المكان وقراءته وفق هذه المقولة.

من جهة أخرى، فإنه ورغم كثرة الاستذكارات والتظاهرات، الرسمية وغير الرسمية، التي احتفت بالروائي الأردني (1932 – 1989)، إلا أن السلطة بقيت تبدي "توجساً" حيال الخوض في أسباب اعتقاله في الخمسينيات وخروج صاحب "العالم مادة وحركة" من الأردن،، والتي لم تكن تخصّ غالب "الكاتب" أو "المثقف" إنما كانت بسبب انتمائه السياسي في مرحلة كانت الأحزاب اليسارية ملاحقة، ثم محظورة، قبل "عودة الديمقراطية" عام 1989.

كان حرياً بالسلطة أن تتصالح مع نفسها، ولا تخفي من تعريف غالب هلسا على الموقع الإلكتروني لوزارة الثقافة الأردنية أيّ ذكر لتلك المرحلة، بل إنه (التعريف) يشير إلى اضطراره لمغادرة العراق ومصر، ثم العراق مرة ثانية، لكنه يطمس حادثة اعتقاله في الأردن ثم مغادرته سراً إلى القاهرة.

أسئلة مشروعة تُطرح ضمن احتفالية الوزارة نفسها بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على رحيل غالب هلسا، مع تنظيمها ندوة عند السادسة من مساء اليوم الأربعاء في "المركز الثقافي الملكي" في عمّان، والتي يُحسب لها تنوّع المداخلات المقدّمة من كتّاب ربطتهم صلة وثيقة ما بالراحل.

تتضمن الندوة ورقة بعنوان "أنا وغالب هلسا" للروائي السوري خيري الذهبي، و"غالب هلسا بين القصة والنوفليلا" للروائي والقاص إلياس فركوح، و"غالب هلسا.. بيروت" للباحثة سلوى العمد، و"غالب هلسا.. روائياً" للناقد فخري صالح، و"غالب هلسا.. مفكراً" للباحث موفق محادين، و"غالب هلسا.. سيرة موازية" للباحث نزيه أبو نضال.

تداعيات كثيرة في ذكرى "الثلاثين" تنفتح على كاتب استثنائي لم يتمترس وراء يقينيات "مبتذلة" في مشروعه التنظيري وعمله السياسي وتجربته الروائية والقصصية والنقدية؛ كان مؤمناً بضرورة الأسئلة الحرجة في الزمن "الرديء".

المساهمون