بات الدور الآن من نصيب "العقل العربي"، بعدما ندّد من شاء بالعربي والشخصية العربية؛ فهو، بحسب الوصفات الجاهزة التي يتداولها نقّاد ومثقّفون وأنصاف مثقّفين وبعض المتعلّمين، عقلٌ إيماني فاسد ضعيف ونقلي جامد. ولدى من يقول بهذا اليقين أنَّ أوصافه هذه دقيقة ومصمَّمة وفق أي أجندة متاحة لا مجال للشك بصحّتها، فهم يعرفون أُمّ هذا العقل، وأباه، ويعلمون كيف كبر وتعلّم، ويدركون أحواله التي فحصوها على سرير العيادة، وتأكّدوا منها بالتحليل المخبري.
والطريف أن من يردّد هذه الوصفات عربيٌّ أيضاً، وله عقل بالطبع، ومن المنطقي أن يُقال إنه يملك عقلاً عربياً. ولكنه يريد أن يقول، بحسب هذا التشخيص، إنَّ عقله وحده يجب أن يُستثنى من اللائحة الوصفية التي أعدّها للعقل العربي، وإن الحالة العربية غريبة عنه وعن تفكيره. وعلى هذا القول، يمكن الاستنتاج أنه يتّهمك، أنت المخاطَب أو القارئ... إنّ عقلك أنت من تلك العقول الإيمانية الجامدة المتخلّفة.
ولكن صاحب هذا التشخيص لا يقرأ، لا لأنه لا يحب القراءة كما يقول، بل لأنه لا يملك الوقت اللازم بسبب مشاغل العيش. ولا المال الضروري بسبب ضيق ذات اليد لشراء الكتب وقراءتها والاطلاع على ما يقوله ممثّلو العقل العربي، أو لأنه فقد الأمل في أن يقول عربي واحد كلمة عاقلة في شأن من شؤون الحياة والفكر، فلا الرواية العربية تعجبه، وهي لا تستأهل القراءة، ولا المسرح العربي ولا الشعر أيضاً، والذي يشهد تراجعاً وفتوراً ظاهرَين، ولا الفلسفة ولا التفكير.
وعلى هذا، فإن عقلاً ما هو الذي يشخّص أمراض العقل، وإن عقلاً ما هو الذي يزعم أو يؤكّد أنّ العقل في أزمة، أو أنه عقل إيماني يفتقر إلى الرشد، أو أنه عقل جامح لا عقلاني، وأنّ هذا العقل المشخِّص (بكسر الخاء) عقل سليم ومعافىً ما دام قادراً على وصف الحالة. ولكنه لا يعترف أبداً بأنّ الأعراض التي يشخّصها في العقل العربي يمكن أن تشمله هو أيضاً.
ليس العقل العربي بخير، أو أنّ قسماً وافراً منه ليس بخير، ويمكن للصفات السابقة أن تكون صالحة ومناسبة لوصف هذا القسم، غير أن عقولاً أخرى غير عربية، مصابة بأمراض شبيهة، ولكنها لا تصلح للتعميم في ثقافاتها؛ فلدى كل ثقافة عقل وعقل، أو لدى كل ثقافة ثقافتان أو أكثر، إذ لا يشبه عقل نصر حامد أبو زيد، عقل عبد الصبور شاهين في أي شيء، سوى أن كلّاً منهما يفكّر بالعربية. وهي هنا ليست صفة لمضمون أو محتوى العقل، بل مجرّد هوية لغوية.
يُقال إن الثعبان يأكل خلاياه إن لم يجد ما يأكله. وقد فعل بطل رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم، في نهاية الأمر، شيئاً مماثلاً لما تفعله الثعابين، وشاتمو العقل العربي المعاصرون، إذ إنه لا يجد ما يفعله بعد كل ما تعرّض له من قهر، فيقول: "عندئذ رفعتُ ذراعي المصابة إلى فمي، وبدأت آكل نفسي".