نتابع، منذ زمن، تجربة الفنّان السوري يوسف عبدلكي (القامشلي، 1951)، تارةً عن كثب، وتارةً عبر الصور التي تتناقلها المواقع الإلكترونية. لكن هذا لم يحمنا من صدمة اللحظة الأولى في معرضه الذي يُقام حالياً في "صالة صفير-زملر" في مدينة هامبورغ الألمانية.
لوحتان كبيرتان تستقبلانك ما إن تطأ قدمك عتبة الصالة: اللوحة الأولى هي لأمّ سجين، برفقة ابنته ربما، تقف أمام سجن كبير بوجه متحجّر فقدَ ماءه، وبقدمين عاريتين تحملان آثار مسمارَين يذكّران بقدمَي المصلوب.
أمّا الثانية، فتقف فيها "أم الشهيد" بملابس الحداد، عارية القدمين أيضاً، قرب قبر ابنها وهي تشبك يديها وتنظر إلى المصوّر بعينين واسعتين يغلب الذهول عليهما والفم يهمّ بسؤاله: هل مات ابني حقاً؟ أو ربما تريد أن تعرف إن كان يستطيع أن يوقظه من رقاده. اللوحة مؤرّخة في سنة 2014، أما الشاب فقد استشهد أحد أيام الجمعة سنة 2011، بحسب شاهدة القبر التي خطّها الرسام. ولا يختار الفنان المنخرط في عالم السياسة هذا التأريخ عن عبث.
تعرّفت السيدة صفير-زملر على أعمال عبدلكي، حينما دعتها السيدة منى الأتاسي لاكتشاف أعماله في معرض استثنائي نظمته في خان أسعد باشا في دمشق سنة 2005، كما تصرّح لـ "العربي الجديد"، فكان هذا المعرض الذي افتتح في السادس من أيلول/سبتمبر الحالي.
ثلاث وعشرون لوحة منفّذة بالفحم على الورق، إلّا واحدة يدخل عليها قليلاً الأكريليك، تحتل جدران الصالة المقسّمة على طابقين اثنين. وقد شغلت غرفة المكتب في كليهما قطعة من الفاكهة؛ ففي الطابق الأرضي هناك نصف قطعة أناناس وكأنها قد شُطرت بمنشار كهربائي لا بالسكين العادية، وهي أقدم اللوحات المعروضة وتعود إلى سنة 2010. أما في الطابق الأول فتفاحة تسبح في الفضاء تذكّرنا بيومٍ زرنا فيه مرسمه الباريسي، وشاهدنا لوحة مشابهة في كاتالوغ معرضه "طبيعة صامتة" (صالة أتاسي - 1998)، أثارت فكرتها حينها دهشتنا.
وإن كنا نتكلّم عن مواضيع اللوحات؛ فهي بالمجمل طبيعة صامتة ألفناها عنده منذ أن بدأ مرحلة الرسم بالفحم على الورق سنة 1995: مزهرية، ريشة معدنية للحبر وأخرى للألوان المائية، أسماك، قوقعة، عصفور ميت، سنارة... إلا أننا نميّز رسماً لساق وحافر حصان مسلوخ الجلد منفّذ سنة 2014، يذكرنا الفنان من خلاله ببداياته في السبعينيات ومجموعة الأحصنة المقيّدة، كذلك نميز "عظْمة" هائلة الحجم تسبح في فضاء اللوحة، وهي من إنتاج السنة الحالية. أما على صعيد التكوين، فأغلب المجموعة المختارة هي ذات تكوين بسيط لا يحمل المغامرة كثيراً ويقوم على توسّط العنصر المرسوم، وحيداً أو يحاوره أحياناً عنصر آخر، في أمان تامّ في وسط المستطيل أو المربّع، يحيط به الرمادي الغامق ويحميه.
وعبدلكي رسّام من الطراز الرفيع، يحمل فضائل فن الرسم الذي أخذه عن نذير نبعة، فنّانه السوري الأثير. هذه الرصانة في الرسم يدعمها تملّك المحترف من أدواته ولنقُل تقنية عالية في العمل، تتبدّى في تلك الخلفية المخملية التي ينسجها كذلك في يقينية ضربات الممحاة كما في ذلك الغنى الغرافيكي للسطوح. وهذا الذي يذكّرنا أيضاً بأساسه الأكاديمي (فن الحفر) على صعيد التقنية، والذي درسه في دمشق كما في باريس. ويظهر هذا جلياً كذلك في عملية استنباط الأبيض من الأسود وكأنه يمارس أحياناً تقنية "الطريقة السوداء" حيث يبدو للمشاهد أن الأشكال تظهر خارجةً من الظلال. لكن يتولّد فينا شخصياً انطباع، ألا وهو أن لوحته بشكل عام لا تخرج كاملة إلى الضوء، فيبقى الرمادي مسيطراً وكأن الفنان يرسم الأشياء في غرفة مظلمة، تلمع فيها حواف الأشياء المعدنية أو البارزة أو بعض أجزاء الأواني الزجاجية دون أن يكون هناك حضور واضح للنور فيها.
"أسوَد" هو عنوان المعرض، فهل يُقصد منه اللون الطاغي على اللوحات أم هي حال البلاد والعباد؟ يجوز الوجهان طالما نسيّس كل فعل يقوم به الفنان. ولكن أليس من الأجدى أن نستقرئ لوحاته أو لوحات غيره ممن يعمل في الحقل السياسي أو من يختار الموضوعات السياسية وما يقوله الفن فعلاً؟ ألا يحتاج الفنان لتقييم أعماله ونقدها، ألم يمل هو نفسه من المفردات والتأويلات السياسية والأدبية لأعماله؟