"مشكال".. ما لا يظهر في الصورة العامة

13 سبتمبر 2018
(من مسرحية "مملكة الجرادين")
+ الخط -

في دورته السابعة التي اختتمت أوّل أمس الثلاثاء في بيروت، وإلى جانب عروض من فنون متعددة موزّعة على أربعة أيام، قدّم "ملتقى الشباب في مسرح المدينة" (مشكال) مجموعة مسرحيات أضاءت عدداً من التجارب الفنية الشابة، ضمن أعمال تنوّعت بين مسرح قائم على النص وآخر قائم على الحركة والأداء الجسدي، إضافة إلى المسرح الراقص.

كان عرض "مملكة الجرادين" من إخراج عوض عوض أوّل عمل تابعه الجمهور. من خلال السينوغرافيا المختارة، والتي تتكوّن من أكياس زبالة موضوعة على الخشبة، وأنابيب مجارير، وعفش محطم وملقى في القمامة، يمكن للمتفرّج أن يستنتج أنه مدعوّ إلى القاع المهمّش والمهمل في المدينة، وهو ما يتأكد حين يتعرّف على الشخصيات التسع، فهم من منطقة يعيش سكانها على الفضلات ومخلفات المدينة من الطعام والمفروشات.

في المحصلة، يشعر المتفرج بأن المكان في "مملكة الجرادين" هو تورية عن كامل المدينة: بيروت، وهي التي تعاني من إهمال في إدارة ملف النفايات، وقد أصبحت الأخيرة جزءاً من المشهد المديني. هكذا، يصل الصوت النقدي عالياً ضدّ ما تعيشه بيروت.

الشخصيات التسع الحاضرة في المسرحية أتت إلى مملكة الجرادين بعد أن أقصيت أو هُمّشت من قبل المجتمع فلجأت للعيش في المساحات العشوائية في المدينة. لكن، على هؤلاء تقديم طلب خطي من أجل البقاء مع باقي المهمشين في "مملكة الجرادين"، فيكتب كل "مواطن" جديد: "أنا الموقّع أدناه أتخلّى وبكامل قواي العقلية عن بشريتي لأصبح جردوناً يعيش بين مخلفات البشر لملاءمة الظروف الطبيعية والنفسية الحالية في بلادنا لفصيلة الجرادين".

من بين هذه الشخصيات سنجد المفكر غير الفاعل، والشاعر المثالي، وبائعة الهوى المغناجة، والمرأة الواعية سياسياً والمدافعة عن حقوق المرأة. يتعايش هؤلاء في مملكة الجرادين، وكما أي جماعة بشرية، سرعان ما تظهرالحاجة إلى قيادة، مما يؤدي إلى اقتراح إقامة انتخابات يصل على أثرها المارشال (أداء ماهر عيتاني) إلى رئاسة المجموعة. هكذا تنتقل بنا المسرحية من إحالة إلى أزمة النفايات إلى إحالة إلى أزمة الانتخابات المتجددة في لبنان.

في عرض بعنوان "مش مسرحية"، يحاول الثنائي نسرين سنجاب ومحمد عيتاني أن ينقلا أجواء وعوالم البروفات المسرحية، حين يضعان ما يدور في الكواليس عادة على الخشبة المكشوفة. نتابع هنا حكاية فرقة من الممثلين الشبان والشابات الهواة يعملون على تجسيد نص "روميو وجولييت" لشكسبير.

ينطلق العمل من محاولة كل ممثل إعادة صياغة النص أو المسودة الخاصة بدوره. تتحوّل الخشبة إذن إلى ورشة، وهي مناسبة كي يقف المتفرّج على قضايا وموضوعات تشغل اهتمام الفئة الشبابية، وهي موضوعات نجد أثرها ومنطلقها في العمل الشكسبيري: الحب، العلاقة مع الذات، العلاقة بين الأهل والأبناء، معنى الوطن وحال البلد.

من أبرز المشاهد في هذا العرض، هو ذلك الذي يكشف عن النظرة الاجتماعية التي تزدري مهنة التمثيل، ومهن المسرح بشكل عام، في عملية كشف وتحليل للذهنيات الاجتماعية التي تقف عثرة أمام رغبة الشبّان والشابات للتخصّص في هذا المجال. من النقاشات التي نسمعها على الخشبة يتكرّر الحديث عن خطاب الأهل الذي يزدري "مغامرة" المسرح، وكثيراً ما يدفع هؤلاء الشباب للتفكير في مهن أخرى تدرّ عليهم الربح والتقدير الاجتماعي.

في مشهد آخر، نرى التفاوت في التعامل بين الجنسين، حيث تُحدّد تحرّكات الفتيات فوق الخشبة مقابل حرية التنقل والتصرّف الممنوحة للذكور. وفي قسم آخر من المسرحية، نتابع النقاش بين فرقة الممثلين والممثلات عن معنى الوطن، وعن العلاقة الغامضة التي تربط كل واحد منهم بالوطن.

جميع هذه المواضيع التي تناولها العمل، من عدم المساواة بين الجنسين، إلى ازدراء الفن وصعوبة ممارسته، تجد متنفساً للحديث عنها في مسرح الشباب الهواة، وغالباً لا تجد المساحة نفسها في المسرح الاحترافي.

من بقية العروض التي لفتت الانتباه، نذكر "عزيمة لسانات"، واللسان هنا كان مدخلا للحديث عن العادات والتقاليد، والدور الذي نوليه في حياتنا وسلوكياتنا لآراء الآخرين. يجعل العرض من الزواج موضوعه الأساسي، مقدّماً وضعيات إشكالية مثل الزواج المختلط الديانات، وزواج الإكراه، وزواج التناقضات الطبقية.

قسّم المخرج رشيد حنينة الخشبة إلى جزئين. في الأيمن، نتابع حكاية عائلة مرفهة نقف بدايةً على العلاقة بين الأم والأب، ومن ثم تظهر الطفلة التي تتحوّل لاحقاً إلى فتاة وتُقدم على زواج مختلط. أما في القسم الأيسر من الخشبة، فنشاهد قصة عائلة من طبقة اجتماعية مختلفة تجبر ابنتها على الزواج المبكر، وتجبرها على اتباع العادات والتقاليد، وارتداء الحجاب، والخضوع لسلطة المجتمع الذكوري.

هكذا نجد في طريقة التعامل مع الفتاة البالغة اختزالاً لمجمل الممارسات الاجتماعية السائدة. لاحقاً، تعود كلتا الفتاتين وقد أصبحتا امرأتين. ينتهي الفصل بين جزءي الخشبة، وتلتقي الممثلتان وجهاً لوجه في نهاية المسرحية، وكأن المسرحية تبيّن أن مصيراً مشتركاً يوحّد حال الإناث في المجتمعات العربية، فتشكو كل من الشخصيتين همّها إلى الأخرى، ويتلمس المتفرج حينها تماثل مصير النساء ضمن الأطر الثقافية العربية.

على كثرة انشغاله بثيمة المرأة وواقعها، قلما اهتمّ المسرح العربي كما في "عزيمة لسانات" بإشكاليات هذه الفئة العمرية، الفتاة البالغة، ولعلّ ذلك من النقاط التي تحسب لمهرجان "مشكال" حيث تجد هكذا شرائح اجتماعية موقعاً لا تجده في المشهد العام.

المساهمون