قبل خمس سنين من هذا الصيف، في بداية حزيران/ يونيو 2013، وبعد عامين ونصف العام من سقوط حسني مبارك في شباط/فبراير 2011، احتل عدد كبير من الكتّاب والفنانين مكتب وزير الثقافة المصري في الزمالك، أكثر أحياء القاهرة "شياكة"، حيث أقاموا ما يشبه مهرجان شارع شاركت فيه وزيرة الثقافة الحالية، عازفة الفلوت إيناس عبد الدايم، بالعزف على مسرح مكشوف.
كان القلق من سلطة "الإخوان" بعد انتخاب مرشحهم محمد مرسي رئيساً للجمهورية يوم 30 حزيران/يونيو 2012 قد بلغ أوجه داخل أجهزة الدولة وخارجها. وللحظة بدا أن النخبة الثقافية المعروفة بعزلتها واختلافها تعبّر عن عامة الناس. فكلاهما يرفض "التجارة بالدين"، وكلاهما يذود عن المجتمع ضد سلطة دخيلة.
وصلت حملات التطهير إلى وزارة الثقافة حين عُيّن علاء عبد العزيز وزيراً، وهو شخصية هامشية ومحملة بالحقد على من سمّاهم "الشلة الثقافية المصرية". فسارع بإقالة عدد من القيادات "التاريخية" للوزارة، بينهم إيناس عبد الدايم رئيسة "دار الأوبرا" وقتذاك، في ما بدا كخطة لاستبعاد لـ"أخونة" المؤسسة الثقافية.
كان مطلب "اعتصام المثقفين" هو إقالة عبد العزيز وإعادة أساطين الوزارة إلى مناصبهم، ما لم تستجب له حكومة هشام قنديل على أي نحو. ورغم أن موالين للإخوان داهموا موقع الاعتصام يوم 11 حزيران/ يونيو، لم ينفضّ المولد إلا بانضمام المثقفين إلى التظاهرات الضخمة التي اندلعت يوم 30، ذكرى تولي مرسي، فمهّدت لعزله وبدء مرحلة انتقالية جديدة بانقلاب 3 تموز/يوليو.
عُزِل مرسي بقرار عسكري أيدته مؤسسات الدولة و"القوى الثورية" على حد سواء، حتى أن الخصمين الأبرز في الحراك السياسي منذ 2011، النشطاء والشرطة، باتا يتعانقان على رؤوس الأشهاد. ولا شك في أن أجهزة الدولة حرّضت على التظاهر وأمّنته بل ودفعت "الحراك الثوري" باتجاهه دفعاً. لكن الأغلبية المنحازة للإسلام السياسي في صندوق الاقتراع بدت منحازة ضده على الأسفلت، ونجحت الظروف أو "الدولة العميقة" في إبراز وجاهة الانحياز الثاني.
قيل وقتئذ إن اعتصام المثقفين كان "الشرارة" التي أشعلت "أحداث 30 يونيو". وبدا ذلك صحيحاً ليس لأهمية الاعتصام ولكن لأن المثقفين يمثلون الدولة والثورة في آن، فهم حلفاء الدولة في مواجهة الحكم الديني، وخصماؤها في مواجهة الحكم العسكري. لكن خلاف الأشعار والأغاني والهتافات التي غطت سماء الزمالك قرابة شهر، لا يطرحون أي تصور لتجاوز خيارين أحلاهما علقم.
بدا الاحتفاء بالمثقفين مقبولاً أيضاً لأن الخطاب "السلفي" خلال عام من حكم مرسي أثبت مقولتهم الأثيرة إن الإسلاميين هم "أعداء الفن". ولم يعتنق المجتمع الواسع تلك المقولة حتى ظهر على الشاشات من يذم أم كلثوم ونجيب محفوظ بل وينادي بهدم أبي الهول، وبدا أن السلطة الحاكمة تباركه.
هكذا نجح المثقفون في مصالحة "الثورة" والدولة. لكن سرعان ما أفضت المشاهد الاحتفالية إلى أجواء شوفينية وإجراءات قمعية. وفيما كان الحديث مستمراً عن قيم التعدد والتسامح، ظهر موظفو وزارة التعليم وهم يحرقون الكتب في أفنية المدارس تعبيراً عن رفضهم للإرهاب!
ربما لأول مرة منذ 2011، تبدت هشاشة الطرح الذي يخجل من كلمة "علماني" ولا يتورع عن تقديس حاملي السلاح. وبدا المثقفون كممثلين لـ"القوى المدنية" في كامل ميوعتهم. إنهم منبطحون للجيش بصفتهم وطنيين وللإسلام السياسي بصفتهم من الشعب "المتدين"، ليس لهم على الواقع حجة إلا المزيد من الهتافات والأغاني والأشعار متى سمح الأمن بإقامة مهرجان شارع جديد.
في مثل هذه الأيام من سنة 2013، كانت المرحلة الانتقالية على وشك التحوّل إلى كابوس من الدماء والتفجيرات. أظن النخبة الثقافية أفاقت من وهم دورها المؤثر في غضون ذلك. لكن فيما ارتد بعض المثقفين عن 30 يونيو، تمسك بعض آخر براوية الزعيم المخلص. وطوال خمس سنوات، ودون أن تظهر بادرة أمل في تجاوز أحد استبدادين، لم يكف الطرفان عن تبادل الشتائم.