لست حاضراً لندعوك، ولا غائباً لنتذكّرك.
على برزخٍ تركناك وتركتنا. أنت تتابع الهجرة في زمن صنعتَه بيديك، وتستأنف اشتعالك المتواصل منذ عقود. أمّا نحن، فنتابع نسج الحضور بالغياب، خيطاً بخيط وقطبةً بقطبة.
لم تشأ أن يُروَّض الموج ولا أن تُدجَّن العواصف. كنت فقط، تريد للجّة أن تنشقّ عن أسطورة القاع. فوقعت من جعبة الضمير كالدويّ، ولم يزل صداك يهزّ الكلمات فينا، ويرجّ السقوف.
عقوقاً أتيت. مجلوّاً بحكمة التمرّد، خلعت الأبواب وفاجأت الحاضرين. كأنك ولدت حدثاً. لم يتأخّر خروجك على الدنيا بما ترك تصدّعاً في الضفاف، ولهاثاً على ثغور الينابيع.
ليست الأوتار سوى ارتعاشاتها. وليست الورود إلا أعشاشاً يصنعها الأريج. هكذا عرفتَ الكتابة وعرّفتها. وليتسنّى للشعر الصعود إلى ذروة النقاء، كان عليك القيام بتعديل في موازين الصنعة وقوانينها، فتركت بحور الشعر تلتحق سالمةً بعلم البديع. وجعلت التمرّد أصل الخلق، والمغامرة سلوكاً، والإبداع رقصاً على الفيالق. أدركت باكراً أن لغة الأمطار لا تجري على ألسنة الينابيع، وأن الأعماق لا تحفل بدوران الأرض ولا بتعاقب النهار والليل. فصنعت من اشتباك الاسم بالمسمّى علامةً للخصب، ودليلاً على أن الأمواج لا تُدقّ بالمسامير.
لم تحتكم إلاّ إلى معجزة الجمال. فقد كان الجمال في فضائك رحباً ووسيعاً، وإلهاً كليّ الحضور. مرةً تلتقيه عند رفعة الجبين الغضوب، ومرة في تسريح شعر الغابات. في قولة لا، كما في الانكسار أمام هدبين منكسرين. في الرعشة بين الأنامل، كما في الخسارات اللازمة لتصعيد الحياة.
لم يكن صنيعك ترفاً على الموائد، بل الخميرة التي يُعجن بها رغيف الضرورة. فقد علّمتنا أنّ تفتُّق الأحلام لا يحتاج إلى الأسرّة، بل إلى الحالمين. وأنه لا يكفي أن يتقن الخزّافون الخزف، بل الأهمّ كيف يصنع كل واحد قدحه الأكثر شفافية على الإطلاق. كلماتك كانت الكلمات، وبها رُفعت الأشرعة وخاضت المجاذيف الفتوحات. فخرجت القصائد من الأعماق جزراً مغسولة بالملح.
يا أنسي
لم نودّعك ولن. لكن أين يقف مستقبلوك ما لم يُوسّع في الزحمة مكانٌ للجمال؟ كيف يُستضاء باشتعالك والغبار يوحّد الملامح بكسائه العميم؟ كيف نراك والرماد يسدّ الآفاق؟ كيف نقنع جيل الهواتف المحمولة بروعة السفر الذي لا يصل إلى أي مكان، لكي يخفّوا في استقبالك؟ تحت أي سماء يُستدلُّ إلى القيمة العارية؟
كيف نسترجعك لنسترجع صوت الضمير الذي اخترق أعمارنا كالطلقة؟ أين يقف المنصتون إلى صرختك المنتصبة في وجه العدوان. الصرخة التي أطلقتها في وجه المصلوب كي لا يعود قبل أن ينزل الفلسطيني عن الصليب. الصرخة في وجه الوطن كله، إذا تم التعرّض فيه للاجئ حر. الصرخة التي غدت علامة على عافية اللبنانيين في عصر الصحافة الخلّاقة، وحجة على سلطة الكلمة التي يحرسها كبار النفوس. الصرخة التي قادت خطاك إلى السجون والمحاكم وظل ظهرك جداراً للضعفاء. أين يقف مستقبلوك وعلى أرصفة بيروت يسحق المارة أقدام الأطفال السوريين، اللاجئين في مسالك البؤس والتشرّد.
لا وهن في العزيمة، ولا ضمور في الأحلام. فما زالت الأصابع تومض، وفي الجنبات برق كثير. لكن ما السبيل إذا كان السديم لا يُمسح بالأكف، ولا تُزال العتمة بممحاة؟ هل بات علينا أن نهيئ المستقبلين قبل أن نملأ الكؤوس؟ أم انتهى بنا العمر يتامى نخوض في الوعر؟ هل يفسح بين صنوف المعلّبات مكان للشعر؟ معلبات القناعة التي توزع على الرعية والراعي سواء بسواء وتعين على المقاومة لكل فكرة حرّة ورأي شجاع.
أين النافذة التي يطل منها جيل القراءة وجيل الكتابة ليفطن إلى ماذا صنعت بالأدب وماذا فعلت بالقصيدة؟ أو كيف سِقت عمرك فوق الألغام ولم تطلب مأمناً ولا ملجأً من أحد، كان يكفيك الشعر الواسع الإهاب وطناً لم تخنْه ولم يخنْك إلى أن خانتك لزاجة الصداقات التي لا تُحتمل؟
أيها الحبيب يا أنسي
أرفعُ كأسك، والوليمة مما نزفتَ من حبر وما كسرتَ من أقلام. نستأنف حديث البارحة بما لن يُختمَ، وبما سيبقى على الأيام بلا قفلٍ ولا مصاريع. مفتوناً وفاتناً كنت في كل لقاء. بين الذاهب تواً والمقيم أبداً، تُكمل الكلام، وأنت على طرف مقعدك، لا تنهض ولا تستريح. كأنّ بك قلقاً لا يستكين، والندى يتلألأ على جبينك والشفتين. لقد مضت سنوات أربع على آخر كأس وآخر نبضة وآخر لمعة عين.
أربع سنوات من زماننا وليس من زمانك. ما زال وقع خطاك في أذني وما أزال في استقبالك. فغيابك أيضاً ليس من زمني. كلما كنتَ تحثّني على الكتابة كنتُ أحتجُّ بضيق الوقت حيناً وبالتهيّب أحياناً. كنتَ تفارقني دون أن تنتزع مني وعداً أو حرفاً. لا أحد يقدّر حجم حرقتي، حين وفيت بوعد لم أعدك به، وإذ بي، حين أكتب الآن، فعن فقدانك أكتب. عن فقدان الجبين الذي تدرّع به جيلٌ كاملٌ ولم يتغضّن. وعن شوق إلى بريق كلماتك الولود والعقم يفرد جناحي غُرابه في سماء المدينة.
سيبقى لك الحب كله واللقاءات كلها. فلا تُنقل الأفئدة على عربات، ولا تُبنى الصداقات على المراكب.
عشتَ الزمن متموِّجاً شهوةً، وكرجت على الحياة مستَقبَلاً صِرفاً، داهشاً ومندهشاً. وبقيت إلى آخر يومك، لا تلتقي الغسق ولا يلتقيك.
تعبر الرصيف بنظرة مرتدّة وظلٍ خفيف، وتخفي جناحين ريفيين تحت قميص المدينة. كنت ترى كيف تتعثّر الحياة على الخطوط المستقيمة وتذبل الأجنحة على الأسلاك، وكيف تختنق الأسماك في البرك المتوازية الأضلاع. شاهدناك بأم العين، ملاكاً وشقيّاً معاً، وفي يدك المطرقة التي تهوي على السكك المستقيمة، فتُخرج القطارات عن مساراتها، وتدفع بالعجلات إلى المهاوي.
شاعراً أتيت وشاعراً تمضي، لم يُفتح لك بابٌ ولم يُقفل وراءك باب. فسطوعك ألفاها مخلَّعةً في كل اتجاه.
في بيروت التقيناك، يوم كانت المدينة لا تنام من الساهرين، كانت أيضاً لا تنام على جرح في جسد عربي. هناك صنعنا فخرنا وجميل انتمائنا إلى الحريّة، ووسّعنا على وسائدنا مكاناً لكل حرٍ ضاق بكلماته الطغاة، أو ضاقت بجناحيه دنياه.
هناك التقيناك، وهناك تعاقدنا على الصداقة. هناك، حيث تُعجَن الحمم بدم القلب وتُدار الطواحين بالأنفاس.
كنتَ رسولاً بلا تلاميذ، لم تلقِ موعظة ولم تحتفِ بنشيد. كانت بئرك بئراً وحسب، لم تسيّجها، ولم تتركها مشاعاً للسابلة. لهذا قلّما نازعك على سيادة الينابيع الصافية أحد.
خرجت إلى الفلوات للصلاة بغير طقوس. ومن تبعوك تركتهم حفاةً عند فوهات البراكين. عراةً تحت الأمطار. وحين عادوا، عادوا رماةً يشدّون أقواسهم بأوتار صوتك.
وداعك خيانة عظمى. فسنبقى واقفين في استقبالك، فالصقر الحنون الذي فيك، سيبقى بين آخر الحراس المؤتمنين على الحصون الأخيرة للروح، والفريسة جاهزة للمخالب.