أوديسة النوبة المهملة

12 ابريل 2017
(من أهرامات النوبة في السودان، تصوير: ستيورات باتلر)
+ الخط -
ربما يعتقد بعضهم أن "الملحمة الشعرية" الأشهر في التاريخ النوبي "أسمر اللونا"، هي مجرّد أغنية تؤدّى في المناسبات الاجتماعية والوطنية، كإحدى الأغنيات المعبرة عن الثقافة النوبية في مصر والسودان، لكن في الواقع فإن هذه "الملحمة" تعد ذاكرة حية ونابضة، لرصد تفاصيل مهمة حول مراحل تاريخية غاية في القدم، حيث يُحكي أن أول من صاغ تلك الكلمات هنّ أمهات الجنود العائدين من معركة تحرير القدس من نير الآشوريين الغزاة..

كانت الأمهات يستقبلن أبناءهن الظافرين بقيادة الملك النوبي طهراقا (فرعون مصر وخامس ملوك الأسرة الخامسة والعشرين)، يردّدن الأهازيج استبشاراً بالنصر، متغنين بجند الملك (حكم في الفترة بين 690 ق م و664 ق م).

جعل ذلك الأهزوجة تعتبر لدى النوبيين "بشارة نصر" و"دفتر التاريخ الأثير" وأشبه ما يكون بـ "أوديسة هوميروس"، بل إنها تحوّلت مع تقادم الأزمنة إلى أغنية صالحة لكل عصر، إذ أضاف إليها الشعراء اللاحقون أبياتاً جديدة على ذات الوزن والقافية.

ويشير المختصّون في التراث النوبي، إلى أن أبيات هذه الملحمة اليوم قد تعدّت ألفي بيت من إضافات الشعراء المتقدمين والمتأخرين، فيما تم الاحتفاظ باللحن الأصلي، سواء كان في النوبة المصرية، أو السودانية، حيث أداها فنانون في العصور المختلفة معتمدين على أنغام الدف (كومبا كوش).

ولا تزال الأغنية حاضرة بذاكرة متجدّدة مع كل عصر وزمن، تبدأ بحدوتة "معركة القدس" وهي المعركة (الوارد ذكرها في الإنجيل، حيث يعتبر الكتابُ المقدّس طهراقا حامياً لأورشليم من الآشوريين) ولا تنتهي عند محاكاة حالات العشق والضعف والإخفاق الإنساني والافتخار بالمنجزات الحضارية لقطري النيل، السودان حيث نزحت منه أسرة الملك طهراقا بعنخي، ومصر حيث أسّست ملكها وحققت الانتصارات.

هكذا تربط هذه الأغنية علاقة ثلاثية بين مصر والسودان والقدس، لكن بالكاد تتذكّر وسائلُ الإعلام المصرية الرسمية أو حتى السودانية اليوم وجود هذه الأغنية في تراثها المشترك، ناهيك عن تذكُر التواريخ المرتبطة بها، فقد ظلّت هذه الملحمة مقتصرة على المناسبات الاجتماعية النوبية، بينما تكفّلت الأنظمة في استحداث المعارك بين أضلاع المثلث..

وليس أدلّ على ذلك من تلك المعركة التي تم استحداثها مؤخراً من قبل وسائل الإعلام المصرية، ضد السودان ومعالمه الحضارية المرتبطة إلى حد بعيد بمصر، ذلك لمجرّد التذكير بأن ثمة أهرامات لا تزال قائمة في السودان كامتداد للملكة الكوشية التي حكمت الكنانة في الأسرة الخامسة والعشرين الفرعونية.

أما القدس المحتلة التي انبرى لها طهراقا محرّراً فأصبحت تبدو بعيدة عن الإعلام الرسمي المنشغل في مناكفات صغيرة ليس من بينها تحرير القدس اليوم من محتليها.

المساهمون