هل فاتنا القطار؟

17 فبراير 2017
نتاليا غونتشاروفا/ روسيا
+ الخط -

كانت السكك الحديدية إحدى التقنيات الكبيرة التي رافقت نشوء الحداثة في أوروبا، وكانت لدى البرجوازية الأوروبية الصاعدة خطّة لبناء سكّة حديد تربط أرجاء المعمورة على ما يقول إريك هوبزباوم. علماً أن معظم السكك الحديدية التي بنيت في دول المستعمرات، كانت تستخدم للأغراض العسكرية.

من اللافت أن تكون أوّل الأعمال التي نفّذها الثائرون على السلطنة العثمانية إبان "الثورة العربية الكبرى" هي تدمير السكك الحديدية. وأشهرها سكّة حديد الحجاز، التي لم تُبن بعد ذلك أبداً، فيما لا تزال شواهدها خراباً بجانب الطرق العامة في الجنوب السوري.

بالمقابل لم تبن دول الاستقلال التي نشأت في أعقاب الاحتلال الفرنسي منظومات للسكك الحديدية، على الرغم من أنها أقلّ كلفة، وأكثر قدرة على خدمة الاقتصاد الناشئ. وتشير جميع المؤشرات التالية إلى أن الممارسة السياسية من جهة، والنشاط الاقتصادي والاجتماعي للأنظمة المتعاقبة التي حكمت سورية، كانت مناهضة للقطار ـ الحداثة.

الطريف أن القطار يبدو شديد الجاذبية في لغة المجاز العربي، وهو يتفوّق على قريناته من وسائل المواصلات، ويملك بعض الشاعرية الرومانسية أيضاً. فمن النادر أن تقرأ جملة تقول: إن العرب قد تأخّروا عن طائرة أو سيارة الحداثة، على غرار الجملة التي أضحت تقليدية اليوم، وهي إن العرب تأخّروا عن قطار الحداثة، أو إنهم لم يركبوا قطار الحداثة بعد.

غير أن الكلام عن القطار، ظلّ في المستوى المجازي، وليس من المؤكد أن يكون قد اختزن أي ميل لا شعوري لحداثة غائبة؛ إذ لم تدافع الثقافة العربية عن الحداثة. وخذ مثلاً أن معظم المثقّفين العرب بمن فيهم أولئك الذين اضطهدتهم الأنظمة العربية، انحازوا إلى جانب قرارات التأميم والإصلاح الزراعي، معتبرين أنها شكل من أشكال توزيع الثروة، لا التحديث. في ما كان التأميم يعبّر عن استيلاء أنظمة العسكر على الصناعة الوطنية المحلية، وإخراجها من الخدمة الفعلية كصناعة وليدة يمكن أن تشارك في التأسيس للحداثة.

وبهذا المعنى فقد دمّر التأميم والإصلاح الزراعي إمكانات التحديث على الصعيد الاقتصادي، فيما كانت الأنظمة تدمّر الجوانب الفكرية لها، حين ساد الاعتقاد أن بالوسع تحقيق التقدّم التكنولوجي (وفكرة التقدّم واحدة من مرتكزات الحداثة الأساسية) من دون الاستعانة بمن يستطيع تحقيق ذلك من البشر، أو من دون الاعتماد على الأفكار السياسية والاقتصادية التي تعبّر عنها. ومن المنطقي أن لا يبقى لدى المثّقف، أو لدى الثقافة عامة، علاقة بالحداثة، أو بمنتجاتها الكبرى، كالسكك الحديدية، سوى علاقة مجازية. وهي تستخدم هذه العلاقة استخداماً مزدوجاً، إذ يمكن أن يكون القطار تعبيراً عن حلم، أو يكون رمزاً لما خسرناه.

كان الرئيس اليمني السابق يُنذر اليمنيين الثائرين عليه قائلاً: "فاتكم القطار". تلك واحدة من الاستخدامات المجازية الدالّة لاسم القطار. كان الرجل يريد أن يستخدم المجاز للتعبير عن فشل الثائرين.

غير أن العارفين بأحوال اليمن يقولون إنه لم ينجَز أي مشروع للسكك الحديدية في عهده. والمثير للسخرية أن يتباهى المستبد أنه حرم أهل البلاد منها.

المساهمون