يستضيف متحف "سرسق" في بيروت، هذه الأيام، مجموعة من الأعمال النحتية للتشكيلية اللبنانية سلوى روضة شقير، التي تُعدّ واحدة من أبرز روّاد التجريد في المنطقة العربية. يتزامن المعرض مع الاحتفال بمئوية ميلادها (24 يونيو/ حزيران 1916).
أتاحت العائلة التي وُلدت فيها شقير أجواء ثقافية ساعدت الفنّانة الشابّة على أن تتنقل بين الدراسات؛ فبعد أن درست الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، انتقلت إلى باريس بهدف احتراف تقنيات النحت، وكانت أظهرت ميلاً واضحاً تجاه الفنون بأشكالها المختلفة، وبدأت مبكّراً العلاقة بالتشكيل في محترف مصطفى فروخ عام 1935، وتابعت تدريبها في أتيليه عمر أنسي عام 1942.
غير أن نقطة التحوّل الأساسية في مسيرة شقير التشكيلية كانت بانتقالها إلى باريس عام 1948. هناك تعرّفت على الحداثة الفنية ودرست تياراتها المتنوّعة. في الفترة الأولى من عيشها في العاصمة الفرنسية، التحقت شقير بـ "المدرسة الوطنية للفنون الجميلة"، وعند النحّات الفرنسي جورج سوبيك تلقّت أساليب النحت والطباعة الحجرية والتصوير الجصي (فرسكو تكنيك)، ثم تابعت دراستها في أكاديمية "دو لاغراند شومير"، وهذه الأخيرة كان يرتادها عدد من الطلاب المغتربين الذين أصبحوا من الفنانين الكبار فيما بعد، أمثال الأميركيين ألكسندر كالدر وإسامو نوغوشي.
في باريس، أيضاً، بدأت النحّاتة الشابة بالتردّد على محترفات فنّانين تشكيليين ونحّاتين، فكانت من الوجوه المألوفة في مرسم التشكيلي الفرنسي فيرناند ليجيه العائد توّاً من نيويورك بخبرات جديدة، ومحترف النحّات الروماني الهنغاري استفان هاجو، وأتيليه "مارتين" التاريخي. لكن التأثّر بما كان يقدّمه "محترف الفن التجريدي" كان الأكثر وضوحاً في أعمال شقير، ففيه أُتيحت لها فرصة التعمّق في الأسلوب التجريدي والمفهوم كذلك، ليصبح لاحقاً الطريق الذي شكّل هويتها الفنية.
عادت شقير إلى لبنان مطلع الخمسينيات مشحونة بالحماس ومعها الكثير من الأفكار الجديدة، فعدا عن رغبتها في تأسيس معهد للفن الحديث في بيروت، واصلت تعميق تجربتها التجريدية لتنتج، ولو بشكل غير منتظم، أعمالاً لا تخلو من الجدّة في وقت كان أغلب المشتغلين في الحقل التشكيلي يميليون إلى الواقعية والانطباعية.
تتوزّع تجربة شقير ضمن أربعة مسارات أساسية: الخط، والقصائد، والأقواس، والثنائيات. تجتمع تلك المسارات على إعلاء قيمة التجريد المستند إلى البحث في معنى الشكل والعلاقة مع الفضاء؛ ففي حين يميّز تحديد الفضاء، من خلال إنتاج حجوم ذات وظيفة تعبيرية، فن العمارة المعاصرة، يبدو الأمر مختلفاً في الأعمال التشكيلية ذات النزعة التجريدية، إذ تمتاز هذه، وأعمال شقير نموذجاً عنها، بالوعي الحسّي بالسطوح وبالحجم وإحساس عالٍ بثقل وجاذبية الكتلة، أي، بمعنى آخر، التوافق بين مظهر الكتلة ووزنها.
من هنا، تحقّق لغة الفضاء التي اختارتها النحاتة اللبنانية الجانبين معاً. ويمكن القول إن تجربتها الممتدّة لأكثر من سبعين عاماً كانت أقرب إلى إنتاج الأفكار، باستخدام اللون والكتلة والضوء والفضاء، من أن تكون إنتاجاً لأعمال "تجريدية" بالمعنى التقليدي للكلمة، ولهذا فإنها تتقاطع، بشكلٍ أو بآخر، مع التيار البنائي الذي أسّس له نعوم غابو؛ حيث تظهر تأثيرات بعض الفنّاين البنّائيين على أعمالها، كالبنائيات المعلّقة لدى ألكسندر رودشينكو وأعمال ميلفيتش الأقرب إلى المخطّطات المعمارية، مع حضور لتأثيرات من العمارة الإسلامية والشعر الصوفي.
انعكس ولع الفنانة بالصوفية في أعمالها النحتية؛ فتكويناتها، المؤلّفة من وحدات منفصلة، تشبه البنية المركّبة للشعر الصوفي، حيث المقطع الشعري وحدة قائمة بذاتها تستطيع، في الوقت نفسه أن تندمج مع القصيدة، كما في مجموعة " قصائد" التي أنتجتها في الستينيات، وفيها يتألّف التكوين من مجموعة مفردات نحتية يمكن ترتيبها ضمن احتمالات مفتوحة، ومن ثمّ إعادتها إلى تكوينها الأصلي. يُتيح هذا الخيار للمتلقّي حالة تفاعلية ويمنحها في الوقت ذاته شكل التمرين الذهني.
عندما بدأت شقير تأخذ مكانتها التشكيلية، اندلعت الحرب الأهلية، فاختفت عن الحضور في المشهد بالتدريج، لتنعزل وتواصل تطوير تكويناتها التجريدية، كمجموعة ثنائيات، متحدّية تأثير الحرب على إنتاجها.
لم يكن ممكناً، أساساً، أن تقتحم مفردات الحرب لغة شقير التشكيلية القائمة، بشكل كبير، على المنطق والحسابات الرياضية. وقد يكون لهذا الأمر، الفضل في تجاوز تلك الحقبة السوداء في حياتها. سننتظر حتى 2011، لنشاهد أعمالها تُستعاد في "مركز بيروت للمعارض"، وبعدها في متحف "تيت" الإنكليزي للفن الحديث، لتدخل إلى العالمية بعد إهمال وتهميش لتجربة رائدة وفريدة في بلادنا العربية.