هو الكاتب الذي حيّر طه حسين وحمله على الاعتراف بأنّه لم يفقَه شيئاً من مسرحيّة "السُدّ" حتَّى قرأها مرّتين، وهو المفكّر الذي أضنى بكتاباته آلاف الطلاّب في الجامعات التونسية منذ خمسينيات القرن الماضي. على أن أعمق تأثيرات الكاتب التونسي محمود المسعدي (1911 - 2004)، هي تلك التي أحدثها في ثنايا العربية المعاصرة، إذ كان أحد المدافعين المستميتين عنها في وجه التغريب.
جدّد المسعدي معجم هذه اللغة - وكانت عصرئذ تبدو أقرب إلى التآكل - بما بثّه فيها من مستحدث المفردات الآتية من مكامن الفلسفة الوجودية، بعد أن ردّها إلى فلسفات الإسلام ردّاً خفيفاً، فقد كان الرجل في شبابه متأثّراً بوجودية جان بول سارتر وألبير كامو، فتمثّل مقولاتهما، وزاوج بينها وبين الأدب العربي، في عصوره الزاهية، ومن أعلامه الذين أحياهم التوحيدي في "إشاراته الإلهية"، والجاحظ وفكاهياته، والأصفهاني في سرديات "أغانيه" وغيرها. هكذا سبك المسعدي مكوّنات هذا التراث وصوّر ما يجيش في نفس مفكّر مسؤول، يصارع الاستعمار بسلاحه الثقافي ويجاهد لإخراج بني جلدته من عتمة الركون.
تفنّن المسعدي في الجمع بين الصور والأساليب حين ألقى باللغة العربية في مجاهيل الفكر الإنساني الحديثة، وربَط الفكر العربي، وقد قيّده الاستعمار في معاقل الجهل، بتطّلعات الإنسانية إلى الحرية، وهو ما تجلى في نشاط توليدي فريد؛ ومن مفرداته المبتكرة في معانيها: الفعل، والحركة، والوجود، والكائن، والمأساة، والعبث وغيرها، وفي القائمة عشرات أخرى، وكلّها تحيل على مغامرة الإنسان في الكون، وحيداً، إلا مع مسؤوليّته، متجرّداً إلاَّ من حريته. صاغ هذه المصطلحات ونحت معانيها في سياقاتٍ مبتدَعة، يرسلها عفواً، بعد أن يشحنها بالمعاني الوجودية التي أينعت في كتابات المثقّفين الفرنسيين، اليساريين منهم خصوصاً.
التوليد المعجمي لديه خَلْق أو لا يكون: يقتبس الكلمات - الفعل من نصوص القدماء الناصعة، حتى لا ترِد مقطوعةً عن أصولها، مبتورة من سياقاتها العريقة، ثم يَشحنها بمضامين التطلّع الحداثي - الغربي، ويخلطها، ببراعة الرسّام، بمفاهيم الهمّ الوجودي في صراع الكائن بين الماهية والوجود، فتتالى المفردات مشكّلةً معجماً فريداً مبتكَراً، تتجذّر مبادئه في نصوص الأدب القديم بمعانيه الدقيقة، وتلامس في أناقة أفق القلق الحديث ومضامين الوعي المغامِر في أدغال البناء الوجودي للذات.
خُذ مثلاً مصطلح "الكيان" (في عنوان كتابه "تأصيلاً لكيان") الذي ترجم به مفهوم L’Etre (الوجود) عند سارتر أو الـ Dasein عند هايدغر، فهو يُذكّر بأصداء الإنسية العربية (وجهاها الأساسيان: التوحيدي ومسكويه)، ثم يضيف إليها الشُحَن المفهومية التي أنتجتها عقول الفلاسفة الوجوديين في النصف الأول من القرن العشرين. ولعل إنشاء معجم خاص بهذا الكاتب كفيل بإظهار إسهاماته الفذّة في تطوير العربية، وإنطاقها بِهذه المفاهيم الحديثة القلقة، تجربةٌ مختلفة عن تلك التي أنجزها عبد الرحمن بدوي، قبل "توبته" من الوجودية.
المسعدي جدّد العربية أيضاً بما أدمجه في فضائها الدلالي - المخيالي من مستجدّ القضايا، وبما طرحه من حارق الأسئلة الوجودية، فأخرج الخطاب الأدبي والفكري من القوالب البلاغية المهترئة وصدى التنميق اللفظي ليجعل منه أدباً ملتزماً، أداة للذود عن الثقافة العربية أمام حداثة جارفة.
عبّر صاحب كتاب "حدّث أبو هريرة قال" عن هذا الالتزام من خلال إدارة تحرير مجلّة "المباحث"، التي أصدر منها ثلاثةً وأربعين عدداً بانتظام بين نيسان/ أبريل 1944 وتشرين الأول/ أكتوبر 1947، فكتب افتتاحياتها تحت عنوان "إلى القارئ"، متّخذاً من هذه المجلّة الملتزمة منبراً فلسفياً يحاور من خلاله إنسان ما بعد الحرب العالمية الثانية التائه، ويناضل في أعمدتها عن القضايا المعرفية والقيمية للأمة العربية بأسلوب ثائر يوجِّه الذهنَ إلى "الغايات الثقافية المحضة"، حتى يتخلّص من "القومية الضيّقة في الأدب"، ويشرح له "طريق نجاة الشبيبة ونجاحها"، مؤكّداً أن الحياة "حق لذوي الشدة واليأس" بعد أن نظّر "وظيفة الأدب" (ما ورد بين علامتي تنصيص هو عناوين لمقالاته).
من المعروف أن النضال بالقلم الثائر إصلاحاً للفكر لم يكن سائداً بُعيد الحرب، ولكن المسعدي طوّع قلمه وجرّد لغته ليكونا في خدمة بني وطنه وقومه، على صورة المثقّف العضوي، ينصهر مع تطلّعات شعبه وقضاياه فيعبّر عنها ويوجّهه إلى أقوم مسالك النهوض. فكانت مجلّة "المباحث" بفصولها - ولم تنل إلى الآن ما تستحقّه لدى المختصّين- إحدى فضاءات تجدُّد العربية وتجدّد وظيفة الأدب في صراعه نهوضاً بالمستوى الذهني للقارئ.
كما كان العالم السردي للمسعدي عالم التناص المُقتدر: يدعو متباعِد النصوص ويقرِّب بينها في نظم فكري مُتّسقٍ: فأسطورة سيزيف تلامس، في كتاباته، تراتيل الفرقان، وفواصلُ هذا الأخير تُقارِع أهازيج السكارى في حانات الجاهلية وتلبيات المشركين، تطالع كلّ ذلكَ فلا تجد فيه أدنى نشاز، لأنها نصوص انحدرت من يد صنّاعٍ وقلم جبّارٍ.
ولكن جمهور القرّاء عابوا عليه إيغاله في التجريد واستعمالَه حوشي الكلام وغريبه، ومجهول العبارات، كما رمَوه بالابتعاد عن قضايا وطنه الملموسة، فنافح الرجل عن أسلوبه في النضال، مؤكّداً اختياره في جعل الأدب ناطقاً بهموم المثقّف من خلف الستار الرقيق للوظائف الجمالية وآليات السرد.
على أن ما كتبه المسعدي يظلّ أدب نخبةٍ، لأن الإشكالات التي طرحها تطاول الوعي بالماورائيات، وهو يقتضي، إلى جانب الثقافة المتينة، التزاماً ذهنيّاً ونحتاً وجودياً، سعياً إلى مساءلة المقدّس ومقارعة الأقدار، فليست النخبوية في لغته المستعملة ولكنّها في صرامة السعي تأصيلاً لكيان: "وإن كلَّ كيان لجهد وكسب منحوت".
تبقى، اليوم، من أدب المسعدي روحٌ بَثَّها في عقول شباب القرن الماضي، وإن كلّت عزائم حامليها وناقليها، كما تبقى شجاعة الفكر-الفرد على تحمّل أعباء الذات في لحظات انهيار "السُدّ" أمام النظرات الحيرى، سُدّ الحداثة التونسية ومكاسبها التي تهوي أمام ضربات الإرهاب والفقر.
قد تساعد إعادة قراءة آثاره وتحيينها على تثبيت الإنسان مركزاً يستقطب تحوّلات التاريخ ولا يَستسلم إليها، يذود عن هويّته المتعدّدة المنفتحة ولا يخشى تطلّعها الى المستقبل. تنوع تراث هذا الكاتب - المفكر (مسرحيات وأقاصيص، حوارات وأبحاث) تؤكّد إمكانية استثمار هذا النتاج في توجيه الفكر العربي وحقنه بحركية الفلسفة الوجودية المُسلمة التي تَصنع قدرها ولا تعاديه، تحاكي الخلق ولا تجافيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في البدء كان الفعل
في "السدّ"، يستعيد محمود المسعدي أسطورة سيزيف الإغريقية ناحتاً إياها بعناصر حضارية مختلفة، حيث يعود التساؤل: أي معنى للفعل الإنساني في هذا الوجود؟ مقدّماً إجابة تميل إلى القول بالعبثية، غير أن الكاتب التونسي، من خلال بطل العمل غيلان، يؤمن بأن هذا الفعل - ولو كان عبثياً - يظل محرّك التاريخ. كُتب العمل في 1955، ضمن سياق الكفاح من أجل الاستقلال، صيغ في شكل مسرحية وصنّفه صاحبه رواية.