أرواح هيغل السبع

28 مايو 2016
(هيغل في بورتريه لـ ميتشيل نولت)
+ الخط -

لم يبالغ نيتشه حين اعتبر غوته مجرّد حادثة لم يكن لها أثر على التاريخ الثقافي لألمانيا، في حين رأى أن الألمان بطبعهم هيغليون، حتى لو لم يوجد هيغل. لربما تلخّص كلمات نيتشه هذه تاريخ الثقافة الألمانية الحديثة، وإن اضطررنا لندخل تعديلاً ليس بالضرورة جوهرياً، ونكتب بأن تاثير غوته تزايد بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، من دون أن يتمكّن البتة من إقصاء هيغل.

بل إن هيغل الذي كثيراً ما اعتُبر كلباً ميتاً - سواء من طرف الماركسيين، رغم استعادة ماركس له في "رأس المال"، أو من طرف السورياليين، ورموز ما بعد الحداثة- يبدو أنه لم يفقد إلا القليل من أرواحه؛ فعلى الرغم من النقد الذي وجّهته مدرسة ما بعد الحداثة للهيغلية وقبلها الفلسفة اليهودية، والتي اعتبرتها غائية ومغرقة في المنطقية ومنافحة عن مركزية أوروبية وتوتاليتارية، رغم ذلك ما زال هيغل يشغل النقاش الفلسفي المعاصر، على الأقل في ألمانيا.

قد تكون عودة هيغل هذه موضوعية، فهو فيلسوف حديث بامتياز، لأنه فكّر في الحداثة من وجهة نظر كونية، وهو يتحدّث عن روح وتاريخ العالم كتعبيرات واقعية عن الوعي. وثانياً، لأن العقل هو ما يجب أن يتحقّق واقعياً، في المادية الاجتماعية، أو في المؤسسات. وثالثاً، لأنه فكّر في الذات كوجود وتحقّق في العالم والتاريخ، فالحقيقي ليس جوهراً ولكن ذاتاً، والذات تاريخ.

بعضهم يفهم عودة هيغل هذه كولادة مكبوتة لماركس، وآخرون قد يرون فيها نوعاً من الحنين إلى تقاليد فلسفية عريقة، في زمن لم تعد فيه للفلسفة كبير شيء تقوله للعالم وعنه. وثالث، قد يعود من ماركس إلى هيغل، ليعبّد الطريق من هيغل إلى ماركس من جديد، كما كتب هابرماس عن "حق الحرية" لأكسيل هونيث.

المثير في كل أشكال العودة هذه، أنها لا تلتفت إلى الوجه المظلم لروح العالم، ولفكرة الكوني لدى هيغل والتي تتناقض بشكل تراجيدي، مع كونية شاعر ومفكر كبير مثل غوته. لربما يعود هذا العمى الميتافيزيقي إلى الطبيعة النسقية للفلسفة الألمانية. فمن يفكّر داخل النسق وبه، لا يمكنه بسهولة الالتفات إلى أشكال الحياة والتفكير الأخرى، وغالباً ما يتحوّل العقل داخل هذه الفلسفات إلى خادم للنسق وليس العكس. وليس هيغل إلا مثالاً صارخاً على ذلك.

إن الفلسفة خروج بالحكم المسبق إلى النسق، هكذا على الأقل أفهمها، وهذا أيضاً ما يصرّح به تاريخ الفلسفة لو أمعنا النظر فيه. وكل نسق سلطة وعنف. في كتابه "فلسفة التاريخ"، يتعرّض هيغل إلى سؤال الهوية والغيرية، وطبعاً في معرض حديثه عن روح العالم، وعن كل تلك العوالم التي لا روح لها.

سيقوم هيغل برحلة "ميتافيزيقة" في الزمان والمكان وفي عالم الفلسفة. لكنه في الحقيقة، وكما أشار إلى ذلك الباحث المغربي القدير فوزي بوبية، هي رحلة داخل العقل، بل وداخل عقله هو. في رحلته هذه سيتحدث هيغل عن أميركا وأفريقيا والصين والهند وبلاد فارس وعن العرب واليهود، قبل أن يعود في النهاية إلى أوروبا، وينتصر لألمانيا "روح العالم".

يكرّر هيغل في كتابه عن تاريخ الفلسفة مراراً أنه يعرف "الكل" (Das Ganze) وهذا ما يسمح له، كما أوضح الباحث فوزي بوبية أن يقدّم لنا نتيجة رحلته قبل الشروع فيها. وليس "الكل" سوى المركزية المسيحية، التي تؤكّد امتلاكها لحقيقة الرب ولمفتاح التاريخ الكوني. وفي السياق نفسه، يفرق بين شعوب تاريخية وأخرى لا تاريخية.

في كتاب "مينيما موراليا" للفيسلوف الألماني ثيودور أدورنو فإن "الكل هو اللاحقيقي". لكن المسألة أكبر من الحقيقة. إن الكل هو نزعة السيطرة التي تسكن العقل الهيغلي حتى اليوم، وتؤسس لأبرتهايد بين الشعوب والحضارات.

المساهمون