الصغيّر أولاد أحمد: بلادي لستُ أعرفها

07 ابريل 2016
(1955 - 2016)
+ الخط -

في الرابع من نيسان/ أبريل الجاري، كتب الشاعر التونسي محمد الصغيّر أولاد أحمد على صفحته في فيسبوك: "عيد ميلاد في غرفة أنيقة بالمستشفى العسكري؟ هذا يحدث أيضاً. سأعيش هذا العيد وأحكي لكم، رغم أنّ أصابعي تثقل زمن الكتابة، وعواطفي تنساب بغزارة إذا تمكّنت من الكتابة".

في ذلك اليوم، أكمل أولاد أحمد عامه الـ 61. في الخامس من نيسان، أي أول أمس، توقّف عن الحكي والكتابة؛ إذ رحل الشاعر بعد صراعٍ مع المرض، ومناكفاتٍ كثيرة خاضها مع كثيرٍ من الخصوم، والسلطة التي لم تتوانَ عن اعتقاله في عام 1984 إثر مشاركته في "أحداث الخبز".

أُفرج عنه بعد فترة، لكنه طُرد من عمله: "أبيت وفي رأسي/ جوع اليتامى/ ويتم الجياع/ وغبن التي/ ربّت رجالاً/ بدون جياد/ أضاعوا العتاد/ وزانوا العدد/ وأخرى أعدّت/ جنوداً/ لم تلدهن/ فكانوا الزناد/ وكانوا السند".

المقطع المذكور، مأخوذ من قصيدته الأشهر: "نحبّ البلاد كما لا يحبّ البلاد أحد". قصيدة، رغم المبالغات الصوتية والاشتغال المُفرط على قافيتها، إلّا أنها لاقت رواجاً جماهيرياً، ربّما بسبب منبريّتها، وتلحينها وغنائها أكثر من مرة، وما تحمله من تناقضات؛ إذ يعاتب الشاعر البلاد على ما أنجبته من طغاةٍ، وفي الوقت نفسه يقول: "لو قتلونا/ كما قتلونا/ لعدنا غزاةً/ لهذا البلد".

وُلد صاحب "جنوب الماء" عام 1955، في سيدي بوزيد، المدينة التي شهدت انطلاق الثورة التونسية قبل ستة أعوام. تعلّم في كُتّاب القرية، ثمّ دخل المدرسة الابتدائية. في عام 1968، انتقل إلى محافظة قفصة لاستكمال تعليمه الثانوي، ثم إلى تونس العاصمة ليتابع دراسته في "المدرسة العليا لأطر الشباب" بين عامي 1975 و1977.

منذ مجموعته الأولى، "نشيد الأيام الستة" (1984)، اشتبك أولاد أحمد مع السلطة؛ فمُنع الديوان من التوزيع حتى عام 1988: "كتب الصبيّ إلى أبيه يقول يا أبتِ: بلادي لستُ أعرفها، ويعجبني مزاجي". نتلمّس في هذه المجموعة نبرةً غاضبةً وساخرةً من حال البلاد، والطاغية، وهو ما اتّسمت به مجمل تجربة الشاعر التي لم تغادر حيّز قصيدة التفعيلة من ناحيةٍ فنية، وكذلك ظلّت تحاول أن تُخلخلَ وتخدش فكرة السلطة، وتشاكسها، منحازةً إلى هموم الحياة اليومية: "أدِرْها/ وقلْ: سلاماً.. وضعْها/ واذهبْ/ وعُد.. ثمّ خذها/ واضحك إلى من ينادي/ حتّى يقال: تدور/ أمورُ/ هذي البلاد!".

تنتمي تجربة الشاعر إلى تلك القصيدة التي بدأت تتشكّل عربيّاً في السبعينيات، التي كان من أبرز روّادها الشاعر المصري الراحل أمل دنقل؛ حيث النصّ مليءٌ بالمحمولات السياسية التحريضية، والرفض لواقعٍ تتحكّم فيه أنظمة قمعيّة، بينما يُترَك الناس لمصائر يُحاصرها الفقر والصّمت.

لكن، من جهةٍ أخرى، مع وصول زين العابدين بن علي إلى الحكم، وانفتاح نظامه في سنواته الأولى على الحريات، أسّس صاحب "حالات الطريق"، في عام 1993، "بيت الشعر التونسي"، وبقي على رأسه لمدّة أربع سنوات. يجد كثيرون أن هذا الأمر كان بداية تقارب أولاد أحمد مع الحياة الثقافية الرسمية. كان ذلك في سياق استثمار السلطة للمعارضة اليسارية، بهدف تحجيم الإسلاميين.

إلا أن علاقته بالسلطة سرعان ما اهتزّت بتزايد تضييقاتها على الحياة الثقافية، وهي مرحلة عاش فيها أولاد أحمد على ماضيه الشعري، ولم تُسجّل قصيدته أي محاولة انفتاح من ناحية الشكل، وكذلك المضمون.

في مقابلة متلفزة عُرضت في نهاية العام الماضي، يقول صاحب "ليس لي مشكلة"، في ردّه على سؤال المذيعة حول "انكسار حلم الثورة": "جزء من المرض الذي أعاني منه، إضافة إلى ما هو بيولوجي، يأتي من الخيبات الكبرى؛ سواءً كانت اجتماعية أو سياسية". ثمّ يضيف: "وأعتقد أنّ لي خيبة في هذه الثورة". يتابع: "هذه الثورة بدأت تلقائيّة (...) لكن الإسلام السياسي ضدّ الحرية بالأساس".

كثيرٌ من الشعراء كتبوا على صفحاتهم حول أولاد أحمد، وشعره، وصداقتهم معه. كتب الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب ما يُشبه رسالةً صغيرة: "أمس فقط كتبت لك تهنئة بعيد ميلادك الّذي صادف يوم أمس الرابع من نيسان، وكتبتَ لي:

ــ مريض .. لا أستطيع الكلام والكتابة أيضاً. الآن أفضل. وطلبتُ منك أن لا ترهق نفسك بالكلام والكتابة. لكنّك بقيت ترسل لي إشارة "لايك" بين الفينة والأخرى، ربّما لأظلّ معك على الخاصّ. يا لحزن زهور وكلمات عليك يا محمّد! يا لحزن تونس التي أنجبتك أيّها الهلاليّ ابن سيدي بوزيد. يا لحزن الشعر عليك! ويا لحزني الكبير يا صديقي! أمس ولدت، واليوم رحلت كأنّك ما عشت سوى يوم واحد".

شاعرٌ إشكاليّ يغيب، ويطوي صفحةً من الالتباس الذي دار حوله: هل كان معارضاً للسلطة، أم متقاطعاً معها؟ أو هل يمكن القول إنّه كان على يسارها؟ وكذلك على مستوى القصيدة، اعتبر نفسه مُجدِّداً، رغم أنّ قصائده ظلّت تدور في الفلك نفسه الذي بدأ أولاد أحمد منه.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصيدة رأي
كثيرون يجدون في كتابات محمد الصغيّر أولاد أحمد النثرية ما يتفوّق على الشكل الأدبي الذي عُرف به، خصوصاً حين يكتب مقال الرأي. لعل لهذا القول بتفوّق النثر على الشعر أسبابَه الموضوعية، فأولاد أحمد يبدو، حتى في قصيدته، مغلّباً الموقف الذي يتبنّاه على أي اشتغال لغوي أو شعوري، ليظل الفارق الأساسي بين الشكلين الأدبيّين في نصوصه هو الجهود الاختزالية وتوفير شكليات الكتابة الشعرية من وزن وقافية.


دلالات
المساهمون