عندما سمّت الحكومة الأرجنتينية ألبيرتو مانغويل مديراً لـ "المكتبة الوطنية" في بوينس آيرس، كان على الرجل الذي جمع ما يقرب من 35 ألف كتاب في مكتبته الخاصّة أن يبدأ بأسى رحلةً جديدة.
عاش مانغويل مثل رحّالة منذ طفولته بسبب طبيعة عمل والده الذي كان دبلوماسياً، رغم ذلك وجد سكناه في مكانٍ ذي ملاح وأبعاد، ساحرٍ وشاسع، لقد أقام على الدوام في غرفةٍ جدرانها الكتب. مبكّراً في مراهقته، عرف بورخيس، وكان الأخير مديراً للمكتبة الوطنية. أثناء تلك الفترة تكوّنت لديه الرغبة النهائية بالعيش محاطاً بالكتب.
اليوم وجد نفسه يشغل منصب خورخي لويس بورخيس (1889-1986)، ويسرّه، كما يقول، هذا التناظر الأليف الذي حبكته المصادفة؛ في تعليقٍ له بعد تسلّمه عمله الجديد يقول إن "الحياة كاتبةٌ رديئة، من حيث معنى أنها تقليدية جداً. نرانا في رواية ما نقبل على مضضٍ أن تعكس البدايةُ النهايةَ، أن تستبق الصفحاتُ الأولى على نحو فاضح الصفحاتِ الأخيرة. هذا بالضبط ما حصل معي".
بالرغم من معرفته أن عمله في المكتبة سيُوقف مشاريعه الكتابية، لم يشأ مانغويل أن يبدو متعجرفاً بعدم قبوله لهذا العرض، وهو يشعر بأنه مدين بالكثير لـ بوينس آيرس، المدينة التي وهبته، في زمن مضى، التعليم من أجل بقية حياته.
يعتقد مانغويل أن المكتبات والنصوص المدوّنة سوف تبقى على قيد الحياة ما دام الإنسان كذلك، مع أنه لا يرى الزمن المتبقّي لكليهما طويلاً، إذا ما نظرنا بجدّية إلى ما يصنعه البشر اليوم.
أما عن الجدل إن كانت المكتبات ضرورية حقاً في عصرنا الحديث، فيرى مانغويل أن الأمر يُحيل إلى الجدل القديم حول أهمية النص المكتوب منذ أن قدّمه أفلاطون نقلاً عن لسان سقراط حاكياً كيف عرض إله الحكمة "تحوت" على الفرعون فنَّ اللغة المكتوبة، وكيف رفضه الفرعون قائلاً إننا بهذا الفنّ سنفقد آخر: فنّ الذاكرة. لكن أفلاطون كان يكتب، والمكتبات شُيِّدت وعاشت.
قبل بضع سنوات قام مختصّان في علم المكتبات بالبحث عن الكتب التي كان بورخيس يعود إليها مراراً، والكتب التي يقرؤها، وتلك التي يدوّن عناوينها في أثناء الساعات التي يقضيها في المكتبة، وأعدّا كتاباً ممتعاً، يتناول هذا الشأن، ذيّلاه بقصص وإحالات غنيّة.
على إثر هذا المشروع، لمعت في ذهن مانغويل فكرة أن يطلب من وزارة الثقافة إعادة ملكية البناء القديم إلى حوزة المكتبة من أجل ترميمه وجعله، في ما بعد، مركزاً عالمياً للدراسات البورخيسية، يضمّ جميع أعمال صاحب "الألف" بما فيها الترجمات إلى اللغات الأخرى، وأعمال الكتّاب الذين أثّروا فيه وأولئك الذين تأثّروا به، إضافةً إلى نُسخٍ من مخطوطات أعماله الأصلية.
يُنتظر أن يكون هذا المركز أيضاً محلّ إقامة للباحثين والدارسين، وملتقى لعقد الندوات وإلقاء المحاضرات الأدبية المتعلّقة بإرث الكاتب الأرجنتيني الأبرز في القرن العشرين.