ميشال أونفري: صهيوني ومناصر للقضية الفلسطينية!

03 نوفمبر 2015
(تصوير: رندوف بتروف)
+ الخط -

تُواصل أزمة المهاجرين توليد هزات ارتدادية على الأرض الأوروبية، خالقةً فرصاً ذهبية لانتعاش القاعدة الانتخابية لليمين المتطرّف، المسكون عادة برهاب الأجانب (Xenophobia)، والمصحوب بالبلاغيات الشعبوية.

وعِوض أن ينحصر النقاش في حلول جذرية تُفتتح أولاً باستقبال هؤلاء "الغلابى"؛ شُيّدت أسيجة شائكة، واستُقبلت كوتة بمعايير براغماتية، ليكشف كل بلد أوروبي عن تحبيذٍ ظاهر بعدم استقبال هؤلاء، قبل أن تحرجهم صورة الطفل السوري الغريق، التي دفعت بعض الدول الأوروبية - وفق نهج تقشفي - إلى استقبال عدد منهم.

ويعدّ المثال الفرنسي الأوضح في هذا الصدد، إذ "تبرّع" الرئيس فرانسوا هولاند باستقبال بضعة آلاف من المهاجرين، ليتولّد بعدها سيل من التعليقات والتجاذبات الإعلامية، في بلد أشارت فيه استطلاعات الرأي إلى معارضة أغلب قاطنيه لاستقبال هؤلاء، بما في تقنية استطلاع الرأي من ثغرات للتوجيه وقول ما يراد له أن يقال.

وفي معرض تفسير هذه النسبة المحرجة في "بلد حقوق الإنسان"، أشار الفيلسوف الفرنسي "اليساري"، ميشال أونفري، في حوار مع جريدة "لوفيغارو" اليمينيّة، إلى وجود شعب أقلويّ وبديل انبرى منذ زمن بفرض خياراته وتصوّراته على الشعب الفرنسي، معدّداً أوصاف هذه الأقلية: "الهوامش المُعظّمة من فكر ما بعد الثورة الطلابية ماي 1968: مناصرو القضية الفلسطينية وفصاميو جيل دولوز، المثليون والمخنثون، المجانين ومسجونو ميشال فوكو، هجناء هوكينغهام ومهاجرو ريني شيرر..."، في ما يشبه سبراً لهذه التوجهات التي -بحسبه دائماً- تحاول محو وإبدال الشعب الفرنسي.

من بين كل الدلاء المتدلية في أزمة اللاجئين، كان دلو الفيلسوف "اليساري التحرري" أكثرها جدلاً وغرابة، فأثارت أجوبته سجالاً إعلامياً كبيراً؛ إذ خصّصت جريدة "ليبراسيون" اليسارية صفحات عديدة تحدّثت فيها عن شبهة يمينية بدأت تتسم بها ردود أفعال هذا المفكّر، إضافة إلى تحوّل أشبه بالميكانيكي إلى الزيمورية Zemmourisation (نسبة إلى الصحافي اليميني إريك زيمور ذي الأصول اليهودية، والذي اشتُهر بتصريحاته العنصرية ضد الفرنسيين من أصول مغاربية).

وإذ نسمح لأنفسنا بشقّ طريق مغاير لهذا الجدل الفرنسي الصاخب كعادته، فإن القضية الفلسطينية التي وردت كإشارة عابرة في حوار أونفري، الذي يعي جيّداً الربط الذي أقدم عليه في معرض سؤال عن المهاجرين، تستحق التوقف عندها ومحاولة تبيان موقف "الفيلسوف المفضل لدى الفرنسيين" من هذه القضية.

لا ينتمي أونفري إلى النمط الشهير من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين ذوي النزعة الكوسموبوليتانية؛ فالمتتبع لمساره وإنتاجه الفكري يلاحظ، إلى جانب غزارته، التناول والاعتناء الحصري بالشأن الفرنسي، وهو تناول نابع أساساً من مركزية مسيحية/أوروبية تظهر عبر مختلف كتبه وتسجيلاته الصوتية. فالفلسفة بالنسبة إليه "نهر خالد"، ينبع بدءاً من الفلاسفة اليونانيين الأقدمين، وصولاً إلى الفكر الغربي المعاصر، وما عدا ذلك؛ فليس سوى شِعاب لا تفضي إلا إلى أراض غير فلسفية.

أما عن توجهاته المُعلنة، فيُعرف أونفري (مواليد 1959) في الأوساط الفكرية بداية من الثمانينيات، بتبنيه مذهب المتعة Hédonisme والذي يربط فيه بطريقة يعجب بها الجمهور بين أبيقور ونيتشه، كما يعرف بمعاداته الشرسة للأديان. وبالرغم من حضوره الإعلامي المكثف في مختلف وسائل الإعلام الفرنسية، لم ترد القضية الفلسطينية إلا نادراً في كتبه أو حواراته، بسبب اعتنائه الدائم بالقضايا الفرنسية. ويتضح من هذا النزر اليسير، أن أونفري يتناول بسطحية وسذاجة، مشابهة لتلك التي يعالج فيها الدين الإسلامي، هذا الصراع.

إن "مركزية الغرب" التي تحدثنا عنها في سياق بناء أونفري لمشروعه الفكري، هي التي تجعل من قضايا العالم تقف وراء القضايا القريبة في فكره، أي حين تحجب شجرة فرنسا وحساباتها الآنية غابة العالم وتوجهاتها الكبرى.

فبالرغم من أن القضية الفلسطينية كانت لتوفّر حقلاً خصباً تتجسّد فيه خطابات أونفري حول "صناعة الحرية" التي يدعو إليها دائماً، إلّا أنّه حاول أن يخلق وسطية وهمية في أتون صراع عسكري وسياسي محتدم؛ فصرّح في أحد مقالاته المنشورة على موقعه الرسمي، بأنه "صهيوني ومناصر للقضية الفلسطينية".

هكذا، تبدو محاولة صاحب "تاريخ مضاد للفلسفة" وكأنّها تلفيق سياسي سيئ، تُظهر سعياً متعففاً إلى وسطية زائفة بين دولة احتلال متغطرسة، وبين شعب مستعمر ومسلوبة أرضه وحقوقه؛ فـ"الوسطية قبل اليسارية" التي يدّعيها أونفري، تقتضي الحفاظ على مسافة متساوية بين طرفي الصراع، لا إنشاء مركز مائل ومغرم بأحد الطرفين.

ورغم "زيارتين" قام بهما صاحب "كتاب نفي اللاهوت" إلى تل أبيب والقدس، لم يحدث تغيّر جدّي في هذه المواقف التي تنم عن كسل معرفي، وما يشبه لامبالاة تجاه قضية لا تزال تحتفظ بمركزية في السياسات الخارجية للدول الغربية، متحجّجاً في كل مرة بمثال الروائي والفيلسوف ألبير كامو حول حرب الجزائر، الذي وإن دافع عن الخيار السلمي بدل الحربي، إلا أنه لم يدافع، بالدرجة نفسها، عن خيار شعب مقموع في الوجود والاستقلال.

لا تختلف "حماسة" أونفري لحلّ هذا الصراع المزمن عن "حماسة" رهط من أعلام الفكر الغربي تجاه قضية إنسانية عادلة يُقتل فيها الصغير قبل الكبير، وتكشف مواقفه، على قلّتها، عن اختزالية وتغافل عن قضية إنسانية كبرى، وتغدو أدبيات التنوير الأوروبية وحقوق الإنسان مجرّد أحاديث عابرة وسلعة إعلامية لم تنتج إلا فرداً أوروبياً طوباوياً، لم يتورّع يوماً بإمدادنا بها، نحن الجيران الجنوبيين والشرقيين، بمختلف وسائله "الحضارية".

هكذا يواصل أونفري، على غرار نخب فرنسية أخرى، انزلاقه من اليسار إلى أفكار كان تداولها حكراً على اليمين المتطرّف، الذي أصبح فجأة غواية أيديولوجية ومحجّ كل راغب في حصد تعاطف الفرنسيين، ويواصل في هذا الصدد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الدفع بهذا الانزلاق إلى سرعاته القصوى.

تغدو بذلك شبهة اليمينية التي رُمي بها أونفري مؤخراً مبرّرة من الناحية الموضوعية وتهمة ستلاحقه إلى أن يثبت العكس، ويبدو الفيلسوف الذي أنهى لتوّه مشروعه الطموح، "الجامعة الشعبية"، بصدد إفلاس قد أصاب قبله عديمي المشاريع وأشباه الفلاسفة الذين وجدوا، في خضم هذا الارتكاس اليساري، في الفرقعات الإعلامية فرصة ذهبية للتموقع من جديد في مشهدية فرنسية تعاني من قحط أيديولوجي مخيف.

وفي هذه الحال، فإن الفلسفة قد تستعير سلوك النعامة عند مواجهة التحدّيات الفكرية الكبيرة والحارقة، فلا يبقى من الفيلسوف سوى حلبة السياسة والتحركات الإعلامية يمين-يسار.


اقرأ أيضاً: رغبات ميشال ويلبيك تريد أن تصبح أوامر

المساهمون