نورة محمّد فرج.. نقد العنصرية في الخليج عبر الثقافة الشعبية والرواية

16 يوليو 2024
محاولة لإرساء ثقافة اعتراف بالظُّلم الذي لحق بهذه الطبقات الاجتماعية
+ الخط -

كتاب "العنصرية في الخليج، إشكالية السوَاد: التاريخ، الثقافة الشعبية، الرواية"، للأكاديمية القطرية نورة محمد فرج (1979)، والصادر حديثاً عن "دار التنوير"، دعوة للتأمّل بـ أحوالنا العربية والإنسانية عموماً، والتي تتجاوز، بطبيعة الحال، ما حدّده العنوان "في الخليج". الكتاب مُهمَّة جريئة في موضوعه، خاصة أنّه يتفحّص تاريخ العنصرية في الخليج من خلال "مُمارسة الاستعباد"، وهي ممتدّة عبر التاريخ، ليصل في النهاية إلى أنّ ما تُعانيه المجتمعات الخليجية في هذا السياق "ليست حالة طارئة". لكن، وطالما أنه ليس حالة طارئة، وأنّه كان جزءاً من الممارسة الاجتماعية، و"لا يندرج ضمن الثالوث المُحرَّم"، فمن أين ينبع هذا الحَرَج في تناوله؟ من الذات الاجتماعية أم من السّلطة، أم من الرغبة في النسيان؟

في القسم الأول تركّز الباحثة على "التاريخ والثقافة الشعبية"، وتحت هذا العنوان تفتَتح كتابها بنصّ لابن خلدون أورده في المقدّمة: "قد رأينا من خَلْق السُّودان على العموم الخفّة والطَيش وكثرة الطرب، فتجدهم مُولعين بالرَّقص على كلّ توقيع، موصوفين بالحُمق في كلّ قُطر، والسبب الصحيح في ذلك، أنّه تقرّر في مَوضعه من الحكمة أنّ طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشّيه، وطبيعة الحُزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه". تُعلّق فرج: "النصّ السابق لا يشكّل حالة صادمة في التراث العربي، فهو ليس قولاً استثنائياً، بل هو نصّ نمطي، يأتي ضمن سلسلة من النصوص التي تستعيد قائمة الصفات ذاتها، وإن بتنويعات طفيفة".

مساءلة صارمة لماضي الاستعباد وللتقاليد المُتصالحة معه

ومن نصّ ابن خلدون الافتتاحي تنتقل فرج إلى الزمن المعاصر: استلام توني موريسون "جائزة نوبل للأدب" عام 1994، بصفتها أول أديبة سوداء تفوز بهذه الجائزة، وصعود روايات المهمّشين عربياً، وافتتاح "متحف بيت بن جلمود" في قطر عام 2015 الذي يعرض جوانب من تاريخ العبودية في الخليج، واعتذار هولندا عن ممارستها العبودية خلال حقبتها الاستعمارية. كما تُميّز بين مفهوم "الثقافة الفرعية والهامشية"، فالأولى قد تكون "متساوية في المرتبة مع الثقافة المركزية، لكن الفارق في مساحة الانتشار، أمّا الهامشية فهي تُشير إلى الحسّ الطبقي والبُعد الإقصائي". يبقى الأهم في ما تلتفتُ إليه فرج عند هذه النقطة، أنها تشير إلى أنّ النخبة المثقّفة في التراث العربي (ابن خلدون وكذلك المسعودي الذي وُلد بعد ثورة العبيد في البصرة بـ 13 عاماً، وأشار إليها في كتاباته) قد تناولت مسألة السواد، لكن هذا لا يعني أن المسألة في ذاتها قد شغلت العامّة، إنّما "وقَر في اللاوعي وفي خطابه المُضمر، وكان متناسباً مع ما يعيشه ويُمارسه العامّة".

ويستعيد الكتاب تجارة الرقيق التي تشكّلت في العصر العباسي، وباتت عابرة للحدود، وعليها تأسَّست العبودية التي انفجرت ثورتُها جنوبي العراق، في العام الذي رحل فيه الجاحظ 255 هجرية، صاحب رسالة "فخر السودان على البيضان"، ويتطرّق إلى رثاء ابن الرومي حال البصرة بعد دخول "الزنج" إليها، رثاء يستبطن هجاءً لـ"العبد الآبق": "بينما أهلُها بأحسن حالٍ/ إذ رماهُم عبيدُهم باصطلامِ/ دخلوها كأنّهم قطعُ الليـ/ ـل إذ راح مُدلهِمَّ الظلامِ"، كما ستنعكس هذه التجارة في كتابات الطبيب البغدادي ابن بطلان، الذي عاش في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، ووضع مؤلّفاً هو ذروة في التشييء، بعنوان "رسالة في شِرى الرقيق وتقليب العبيد".

بعد هذا السرد التاريخي، تقف الباحثة على ما أوردته الوثائق البريطانية، حيث بلغ عدد العبيد في الخليج أكثر من مليون امرأة ورجل بين عامي 1884 و1949. وتُسائل فرج هذا "التصالح والقبول الاجتماعي" مع "حالات الخطف والعُدوان" التي حوّلت "غِيلة" الكثير من الأفارقة إلى عبيد، واستقدمتهم إلى شبه الجزيرة العربية (ما سُمِّي بـ"تجارة العاج الأسود")، فضلاً عن أنواع الاستعباد الأُخرى: من اختطف على يد سماسرة العبيد في شبه الجزيرة وليس في أفريقيا، ومن وُلد لأبوين عبدين. وهنا تنبّه نورة محمد فرج إلى أن عُمر العبودية في الجزيرة العربية تتجاوز الألفَي عام، ولم تُبطل إلا بقرار بريطاني منذ سبعين عاماً فقط.

تسدُّ بالرواية المعاصرة فراغات تاريخ المُستعبَدين الشفوي

وتختم نورة فرج هذا القسم من كتابها بالوقوف عند تجربة متحف "بيت بن جلمود"، وتتساءل: في ما لو كان قائماً على مفهوم الاعتراف، وتجاوُز الحرَج حتى لا تتكرّر المأساة مرّة أُخرى؟ وتُنبّه إلى أن اسم المتحف هو لقب لتاجر الرقيق صاحب البيت قديماً، ومُستمَدّ من قسوته (الجلمود هو الصخر القاسي)، وليس اسماً حقيقياً له، وقد ورَدَ ذِكرُ هذا التاجر في سجلّات الوكالة السياسية البريطانية في البحرين، مؤرَّخة في السادس من كانون الأول/ ديسمبر 1942. وتُوجز الباحثة الحديث عن تجربة المتحف بـ"الشجاعة، من جهة، وبالقلق والخشية من جهة أُخرى، وخاصة بالخشية من الصورة التي يصنعها المجتمع، وهكذا يُمكن فهم سبب الامتناع عن عرض شهادة فاطمة شدّاد (تُثبت شهادتها كاملة في آخر الكتاب) للجميع في بدايات افتتاح المتحف، فهي الجزء الخاص والشخصي الأكثر تأثيراً فيه".

الصورة
نورة محمد فرج - القسم الثقافي
نورة محمد فرج

أمّا القسم الثاني من الكتاب، "في الرواية الخليجية"، فيكتسب أهمّيته من كون أنّ تاريخَ السُّود في الجزيرة العربية شفاهي، وبالتالي تلعب الرواية، هُنا، دوراً في "سدِّ الفراغ التاريخي بنصوص تخيُّليّة توثيقية". وتُحصي الباحثة تسعاً وعشرين رواية خليجية، صدرت منذ 1998، تناولت موضوع العنصرية ضدّ السُّود أو العبودية، حظيت ثلاثٌ منها بجوائز عربية وعالمية: "لأنّي أسود" للكويتية سعداء الدعّاس ("جائزة الدولة التشجيعية"، 2010)، و"جارية" للبحرينية منيرة سوار ("كتارا"، 2015)، و"سيّدات القمر" للعُمانية جوخة الحارثي ("مان بوكر العالمية"، 2019).

ومن خلال هذه الروايات تقف أستاذة اللغة العربية في "جامعة قطر" على عدّة إشكالات اجتماعية مثل "الحبّ المُحرّم/ إرث عنترة"، كما في رواية "جاهلية" (2008) للروائية السعودية ليلى الجهني، وتروي قصة حبّ بين "لين" وشابّ أسود يُدعي "مالك" ولا يحمل الجنسية السعودية، واللافت في هذه الرواية أنها تعتمد على الأيام والشهور الجاهلية، حيث تبدأ بمؤنس الخامس عشر من وَعِل من العام الثاني عشر بعد "عاصفة الصحراء". وكذلك رواية "ميمونة" (2007) للسعودي محمود تراوري، و"صمت الفراشات" (2007) للكويتية ليلى العثمان، وإن لم تكُن هذه الإشكالية هي المركزية في العمل.

كذلك تأتي الباحثة على إشكالية "الروح المتمرّدة"، كما في رواية "الأشياء ليست في أماكنها" (2009) للعُمانية هدى حمد، فالفتاة تملك بشرةً سوداء وشعراً ناعماً، وتكنُّ مشاعر حبّ تجاه شابّ أبيض، وكذلك تملك أصلاً إشكالياً "بيسرة"، أي مهجّنة، وغالباً ما تتذكّر خالتها التي تزوّجت من زنجباري وفرّت معه إلى القرية المجاورة. وفي "سيّدات القمر" يتمرَّد العبد على سيِّده ويُقرّر العودة إلى أرضه التي اختطفه منها القراصنة وتُجّار العبيد. وإشكالية أُخرى تتمثّل في "العُنصريات المتداخلة/ المتجاورة" كما في "ذكريات ضالّة" (2014) للكويتي عبد الله البصيّص، الذي يتناول العنصرية ضد "البدون" إلى جانب العنصرية ضدّ السُّود، و"لأنّي أسود" للكويتية سعداء الدعّاس التي تلتفت فيها إلى إشكالية الطائفية، وإشكالية "المقاومة بالحِيْلة" التي يتخلّص فيها العَبد من الرضوخ وينتقل إلى المقاومة مثل "الطواف حيث الجمر" (1999) للعُمانية بدرية الشحّي، و"ثمن الملح" (2016) للبحريني خالد البسّام.

لهذا كلّه يمكن القول إنّ كتاب الباحثة القطرية نورة محمد فرج يتجاوُز الصمت والحَرَج الاجتماعي، حيث يضعنا هذا الصوت النسوي أمام أنفسنا وأمام تقاليد مورست لقرون طويلة عبر تاريخنا، من خلال نقد جادّ يأتي على العكس من القراءات الثقافية التي لا تستعيد من الماضي إلّا ما هو مقبول.
 

المساهمون