ريتشارد سيرّا.. فولاذ خفيف في أرض عربية

23 ابريل 2014
"شرق - غرب/ غرب - شرق"
+ الخط -
بعد الفنان الإشكالي داميان هيرست، ها هو الفنان الأمريكي ريتشارد سيرّا (1938)، يحل ضيفاً على "هيئة متاحف قطر". مجسّمات فولاذية متفاوتة الأشكال والأحجام، تتفاعل مع محيطها وتتطلب من المتأمل علاقة بصرية وحسية تستبطن تناقضاتها وإشارات صاحبها؛ ساحر الفولاذ.

معرض شامل لتجربة سيرّا، هو الأول له في المنطقة العربية. كتل متفاوتة الأشكال والأحجام، يسعى الفنان من خلالها إلى التعبير عن المظهر الصناعي للعالم الحديث، بمدنه التي تحوّلت إلى آفاق إسمنتية.

تتوزّع الأعمال على ثلاثة أماكن: متحف "الفن الإسلامي" الذي يستقبل عملين، الأول بعنوان "ممرّ الزمن"، وقد صُمِّمَ خصّيصاً للعرض في قاعة "الرواق"، والثاني دُشّن عام 2011 تحت عنوان "7"، ويركن في حديقة المتحف؛ "هيئة متاحف قطر" في الحي الثقافي "كتارا"، حيث تُعرض مجموعة من المنحوتات؛ ومحميّة "بروق" الصحراوية التي تحتضن عملا بعنوان "شرق ـ غرب/ غرب ـ شرق"، دُشّن يوم افتتاح المعرض.

"ممر الزمن" عبارة عن جدارين متوازيين من الفولاذ، يسيران معاً بشكلٍ متماوجٍ على امتداد 66.5 متراً، وارتفاع يبلغ 4.1 متر. تتعدّى علاقة المتلقّي بهذا العمل الجانب البصريّ. فعليه أن يسير في هذا الممرّ مُستكشفاً تحدّباته وتجويفاته، حتى يتحوّل إلى جزء منه ومن عملية إنتاجه وفهمه. بعبارة أخرى، يبقى العمل ناقصاً إن لم تنشأ هذه العلاقة بيننا وبينه.

ويعكس ذلك رغبة "سيرّا" في منحنا أحاسيس متفاوتة تنتابنا أثناء سيرنا بين هذين الجدارين الفولاذيين، فنجد أنفسنا مرتبكين ومشدوهين على هذه الطريق التي تبدو لوهلة وكأنّ لا نهاية لها، في إحالةٍ لشعورنا بمرور الزّمن الذي يمضي بنا إلى المجهول. وإن كان العابر فلسطينياً فلا بد أن يتذكر الجدار الإسرائيلي الرهيب الذي يقّطع الأرض الفلسطينية.

وعن هذا العمل، الذي يرتكز بصورةٍ أساسيّة على تكوينات فراغية يُشكّلها الفولاذ، يقول "سيرّا": "لا أتعامل مع القطع الفولاذية بحد ذاتِها، وإنما مع حيّزها الفراغي. ما يهمّني هو كيف يحتوي الفولاذُ الفراغ ويُشكّله، وكيف يقودُ المُشاهد في مساره الداخلي".

 


أما المنحوتة "7"، فمكوّنة من سبع شرائح فولاذية يبلغ ارتفاعها ثمانين قدماً، وتزن 385 طُنّاً، تُشكِّل عبر التفافِها على بعضِها مُضلّعاً سُباعيّاً، يراه بوضوح من يلجها ويُحدّق إلى الأعلى. واستغرق تصميم هذا العمل وإنجازه 3 سنوات، وتطلّب من "سيرّا" استكمال أبحاثه ودراسته لفنون العمارة الإسلامية، خصوصاً المآذن والمنارات. وكانت النتيجة منحوتة عملاقة تتحلّى برؤية تجريديّة مُستوحاة من طبيعة المئذنة وتكويناتها، وبالتالي تتّسقُ مع هُوية المتحف الذي يحتضنها، والمدينة بشكلٍ عامّ.

ومنذ صغره، افتُتن "سيرّا" بالمجسّمات الفولاذية الضخمة، وبالسّفن تحديداً. فرغم حجمها الهائل ووزنها الثقيل، تطفو السفينة على الماء وكأنّ لا ثقل لها. افتتان يفسّر أعماله المعروضة في الحي الثقافي "كتارا"، وعلى رأسها "بيت من ورق"، الذي ابتكره عام 1969، وهو عبارة عن أربعة ألواح من الرصاص، تزن طنّاً واحداً وتستند على بعضها بعضاً لتُشكّل صندوقاً مُكعّباً.

فعبر هذا العمل، تتجلّى قدرة الفنان على تحويل الأشياء الثقيلة إلى مجسّمات تبدو وكأنها خفيفةً وحالمة ومعدومة الوزن. ولذلك، يرتكز في تصميم أعماله على قوانين الجاذبية. فكلّ مجسّم يدعم نفسه بنفسه، من دون اللجوء إلى صهر أطرافه ولحمِها ببعضها بعضاً لتُحقّق تماسكها.

ويشكّل "بيت من ورق"، بالنسبة إلى "سيرا"، مرجعاً أساسياً لمعظم المنحوتات التي أنجزها لاحقاً. وربّما يكون اسم العمل مفتاحاً لفهمه، فـ"أوراق الشدّة" خفيفةٌ لدرجة أنّ نسمة هواء يمكن أن تطيح بها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى العمل المذكور، حيث تحريك شريحة واحدة من شرائحه كفيل بإفقاده توازنه وانهياره. وينطبق ذلك على بقية المنحوتات المُشابهة التي تتكوّن من ألواح تستند إلى بعضِها بعضاً، وتكتسب توازنَها من طريقة تصميمها وتركيبها.

 

أما العمل الأخير، "شرق - غرب/ غرب - شرق"، فيتألّف من أربعة ألواح فولاذية تمتدّ على مدى كيلومتر في محمية "بروق" الصحراوية؛ ترتفع شريحتان منها 14.7 متراً فوق الأرض، وشريحتان 16.7 متراً. ورغم المسافة الكبيرة التي تفصل بين الألواح، فمن الممكن مشاهدتها كاملةً من أي طرف من أطراف المنحوتة، سواءً نظرنا إليها من الشرق أو من الغرب.

ويأخذ هذا العمل معناه من علاقته مع طبيعة المنطقة المحيطة به؛ هضاب من حجر الجير. فحين نسير من لوحٍ إلى آخر، تظهر المسافة بين كلّ هضبة وأخرى كوادٍ يُشكِّلُ هلالاً. وإنّ دلّ هذا على شيء، فعلى إمعان "سيرّا" في دراسة وفهم الطبيعة الجُغرافية للمنطقة التي يشيّد فيها أعماله، لإنشاء علاقة عضوية مع مكان وجودها، وبما يترك لمتأمّلها ملاحقة العلاقات والتناقضات والخفّة التي ينشئها الفولاذ الغربي في الأرض العربية.

 

دلالات
المساهمون