"احمِني".. العالم كمكان مرعب

23 ديسمبر 2014
مشهد من العرض
+ الخط -

في الصيف الماضي، زرت اليونان للعمل مع فرقة مسرحية ومكثت شهراً في البلد الذي يعاني الأزمة الأكثر تخبطاً في أوروبا. سألت صديقاً تدهور به الحال ليعمل موزعاً لمشروب "الكوكا كولا" على المتاجر، عن رأيه بالأزمة في اليونان، فأجاب: "كلمة الأزمة هي هروب مما يحدث، كلمة حيادية لا تريد أن تواجه المشاكل الحقيقية، كلمة إعلامية يريد منها أصحاب القرار أن يخدروا اليونانيين وأن يعتادوا حياديتها".

ليس اعتياد كلمة الأزمة حصراً على اليونانيين، فقد سرّب الإعلام والسياسيون في أوروبا والشمال الأميركي كلمة أزمة لتوصيف ما حصل اقتصادياً في عام 2008، وهناك من يقول إن ما يحصل في سورية هي أزمة.

وعلى "مسرح شاوبونه" في برلين، قدّم المخرج والكاتب الألماني فالك ريختر والراقص ومصمم الرقص أنوك فان ديجك مسرحيتهما الجديدة "احمِني" Protect me التي تطرقت إلى الكوارث النفسية والاجتماعية والغريزية، بعد مرور ستة أعوام على ما سمي الأزمة، والتي تكفلت حياديتها بتخدير العالم عن نتائجها.

وقتها، قرّر الإعلام أن ما حدث هو أزمة لكي يخفف من جدية الكارثة الاقتصادية التي نعيش آثارها جميعاً على هذا الكوكب، من خلال ازدياد الفقر، وغلاء أسعار الطعام، وتعميم الحروب وتصاعد الفاشية والضيق من كم اللاجئين/الناجين في بلدان غريبة عنهم. ولكن هل هذا كل شيء؟

قام كل من المخرج ومصمم الرقص بتأليف مسرحية "احمِني" معاً، واختار الاثنان مشاهد متشظية تتعمق في صدمة النتائج النفسية والجسدية والعصبية على أفراد المجتمعات التي عانت مما يسمى الأزمة.

تبدأ المسرحية ببقع ضوئية على ممثلين مبعثرين على خشبة المسرح وأمام كل منهم ميكرفون. تفتتح ممثلة العرض بقولها: "من الآن فصاعداً لن يصبح أي أحد مسؤولاً عن أي شيء". ويقع الممثلون جميعاً ميتين بعد إطلاق أعيرة نارية عليهم، ثم يقفون فينهال عليهم الرصاص، وينهضون ويموتون، وهكذا.

يضفي التعاون بين ريختر (الكاتب والمخرج) وديجك (مصمم الرقص والراقص) دفقاً خاصاً من تمازج الأشكال الفنية. ينطق الممثلون عبر المكرفونات ببوحهم وحكمتهم بالألمانية والإنجليزية. وبعدها تختلط مستويات التمثيل والحوار والإلقاء والرقص، لتصبح أشكال الأداء هي الأزمة ولا يعود الحوار والرقص شكلان للتعبير، بل هما المشكلة بحد ذاتها.

يأتي معظم الكلام بشكل مونولوجات، ولا تتحدث الشخصيات إلى بعضها بعضاً الآخر إلا في ما ندر، وتتحول سلاسة الرقص عند أحد الممثلين إلى حالة عصابية شبيهة برقصات الهيب بوب، ويصبح رقصه أكثر عنفاً من العنف الذي يخيفه.

يدخل خمسة ممثلين داخل علبتين زجاجيتين كبيرتين على طرفي المسرح، وينتقل العرض إلى مستوى آخر من العصابية والكوارث النفسية في مشهد مخيف بهواجسه. يدخل ثلاثة ممثلين إلى العلبة الزجاجية على يسار المسرح ويقفون وكأنهم تماثيل عرض الملابس.

تقف الفتاة في الوسط مستعرضة إثارتها، بينما يحيط بها شابان، ويبذلان كل ما يستطيعان كي تبدو ملابسهم مثيرة عليهم. يأخذ الممثلون الثلاثة وضعية التماثيل أيضاً ويغيرون وقفاتهم بين الحين والحين، محاولين إثارة كل شهوات الاستهلاك.

يجلس رجل عجوز في العلبة الزجاجية المقابلة على يمين المسرح. يدخل ابنه إلى العلبة الزجاجية ويبتعد عن أبيه ليتكور وحيداً في زاوية من زوايا البيت الزجاجي، بينما يظل بقية الممثلين على المسرح خارج العلبتين الزجاجيتين يركضون بجنون وسرعة.

تدخل إحدى الممثلات وكأنها زوبعة ما إلى العلبة الزجاجية حيث الفتى المتكور على نفسه، ليزداد هذا تكوراً وهو يحاول إبعاد الكابوس الذي يحيط به.يستمر مشهد القسوة هذا لنصف ساعة تقريباً في المسرحية التي تمتد لساعتين. في الطرف الأول يبقى الأب جالساً مكانه على الكرسي غير مكترث بالأشباح التي تسيطر على ولده. يتكرس المشهد هنا مع دلالة غياب الأم، واختيار كلمة احمِني عنواناً للعرض، بينما تزداد أصنام الممثلين الآخرين تبجحاً.

لا تتوقف القسوة عند أشباح المخيلة وملذات الاستهلاك، إذ يرمي المخرجان أمامنا أسئلة أكثر إحراجاً من الواقع: من ينطق كلماتنا؟ وهل نثق بالطريقة التي تظهر بها أفعالنا؟ هل نحن أحياء أم أننا مجرد مؤثرات صوتية؟ من يحمينا من كل شيء؟ هل نثق بكلمة أزمة في عالم الحروب والاحتكار وابتزاز الحياة؟ هل ستندلع الثورة بعد خمسة أيام؟ ومن سيقوم بالثورة والتغيير؟ هل هو الإنسان المستسلم للأزمة؟

ليس هذا التعاون الأول بين ريختر وفان ديجك، فقد اجتمع الاثنان من قبل في العام 1988، وتميّزت أعمالهما بالتداخل الفني الغني بين كاتب ومصمم الرقص، أو مخرج وراقص. وفي عملهم الجديد، "احمِني"، والذي يقوم بجولة عالمية، يقدم المخرجان صورة قاسية عن فرد يواجه أسئلة لا نهائية عن معاني التجارب التي يخوضها، وضرورة تقليص الحياة إلى الأساسيات البديهية في الوقت الذي تكدس مجموعات قليلة النقود في بنوكهم.

يضمحل أفراد المجتمع سوية وتدريجياً، إلى أن يصبح السوق والتسليع ديفا "Diva" هذا العصر، على حد تعبير المخرجين في بروشور العرض، فيما يتم تخدير الإنسان من خلال حيادية الأزمة، وتدريجياً تتضاءل مساحته ليتراجع أو يصمت أو يرحل.

دلالات
المساهمون