ڤكتور رودريغيس نُوْنْيِس.. لا أكتبُ قصائدَ بل أكتبُ شعراً

27 يناير 2023
فكتور رودريغيس نُوْنْيِس يقرأ في "مهرجان أثينا الدوليّ للشعر" عام 2019 (العربي الجديد)
+ الخط -

لا علامات ترقيم أبدًا، في "القصيدة" الراهنة التي يكتبها الشاعر الكوبي ڤكتور رودريغيس نُوْنْيِس (بحسب الإسبانية المنطوقة في كوبا؛ أو: بكتور رودريغيث نُونيِث، بحسب الإسبانية القشتالية القاعدية)، وهي "استراتيجية" تعيدُ إلى الأذهان مَا درَج عليه الشاعر الأميركي دبليو. إس. ميروين (1927 - 2019) في آخر ثلاثين سنة من حياته، حين "عزف" تمامًا عن استخدام علامات الترقيم التي كان يرى أنَّها "تنتمي إلى النثر"، فتحُدُّ من حركة التدفُّق الطبيعيِّ للكلام، على الورق، و"تُكبِّلُ" حرِّيته، فَـ"نحنُ لا نستخدم علامات الترقيم في كلامنا اليوميِّ البتَّة، ولا نستخدمها، كذلكَ، حين نُغنِّي".

هي محاولة، إذن، إلى إعادة القول الشعريِّ إلى "فطرته الأولى"، إنْ جاز لي القول: إلى نشيده الهادر الذي تظلُّ أصداؤه تتردَّدُ  - حتَّى بعد انتهاءِ القول نَفْسه - إلى أبد الآبدين. إنَّها قصيدة "سيَّالةٌ": "تنبعُ" من جهةٍ معيَّنة، كالنَّهر، وتظلُّ جارية، سطرًا إثر سطر، وبيتًا إثر بيتٍ، مفتوحةً على جهات المعاني كلِّها؛ فلا "حدود" للقصيدة، ولا "شكلَ" يعوق حرَّية انسيابيَّتها. ثمة نقطة بدءٍ، ولكنْ لا تُوجَد نقطة نهايةٍ أبدًا: يظلّ القول الشعري في حالة "دفقٍ"، حتى بعد الانتهاء من القول (ولا أقولُ: بعد الانتهاء من الكتابة) في اللحظة المختارَة تلك؛ فالشاعر لا "يضع" نقطةَ انتهاءِ الكلام، النقطة الختامية (full stop)، حين ينتهي من القصيدة (ولا أقولُ: حين تنتهي القصيدة)، لأنَّهُ، بذلك، ينتهي من القول الشعري فحسب، ولكنَّ القصيدة، من حيثُ هي، لا تنتهي أبدًا، بل تظل مفتوحةً، هكذا، على الفضاء: فضاء الصفحة البيضاء الذي هو كلُّ فضاء آخر في هذا الكون الوسيع. هي القصيدة التي تسعى إلى أن تحتوي كلَّ شيءٍ في "طيَّات" وجودها، الذي "يتعدَّد" بتعدُّد "طيَّات" المعاني الثاوية في نسيج اللغة.

كأنَّ الشاعر، في سعيه هذا، يبحث عن "صلصال" اللغة النقيِّ، الذي لا شِيَة فيهِ، وعن الأصل الذي تشكَّل منه الكلام، منذ البَدء، كي يعثر على "الشكل الأمِّ"، أو "شكل الأشكال جميعًا"، والذي لا يكون إلَّا في "انعدام الشكل"، خاصَّةً حين يقول في قصيدة "سوفَ أخرجُ منكِ حادًّا مثلَ خنجر": "الصَّلصالُ النَّقيُّ/ جميلٌ لأنَّهُ يريدُ/ أنْ يكونَ شكلًا آخَر"، أو حين يقول، في القصيدة ذاتها: "أيَّتها الصَّفحةُ الفارغةُ/ لا أجدُ نَفْسِي إلَّا/ حيثُ لا أكونُ".

ثمة نقطة بدءٍ في شعرِه، ولكن لا توجد نقطة نهاية أبدًا

ولا يتحقَّق هذا "الشكل الذي بلا شكل" إلا بـ"انسيابية" اللغة، بتدفُّقها الفطري. وهذه الانسيابية، في الصنعة، هي التي دفعت الشاعرة البريطانية لاورا سكوت إلى وصف ڤكتور نُوْنْيِس بأنَّه "فنَّان بارع، وهذا ما يمنحه أريحية جذَّابة، كمثل شخص يعرف أنَّ قصائده ساحرة، ولكنَّه قد عرف ذلك، منذ أمد بعيد، حتى كاد أن ينساها" (مجلة "ذا نورث"، ربيع 2014، العدد 52).

ولكنَّ هذا "الزهد" في استخدام العلامات والرموز الاصطلاحية التي تُنظِّمُ الكتابة، يُذكِّرنا، أيضًا، بالشاعرة إيميلي ديكنسن (1830 - 1886)، إحدى أبرز رموز الشعرية الأميركية، التي استعاضت عن علامات الترقيم، في نظم قصائدها، باستخدام الشَّرْطة/ الشحْطة (dash)؛ وهو تصرُّف يُعَدُّ "ثوريًّا"، وفق نظرية النَّظْم التي سادت عصرَها، حتى باتت "علامتها" الفارقة. أدَّت "استراتيجية" ديكنسن، هذه، إلى أن تنطوي أبياتها الشعرية على "غموض مُحيِّرٍ" (إن جاز أن القول)، فتحتمل أكثر من معنى، وأكثر من قراءة، إلى الحدِّ الذي دفع بعض محرِّري الطبعات المختلفة لأعمالها الشعرية الكاملة (1800 قصيدة)، إلى إعادة موضعة علامات الترقيم في القصائد، وفقَ الأعراف السائدة (بناءً على "ذائقة" المُحرِّر، بالطبع، ومدى "خصب" خياله)، كي يتمكَّن القارئ المعاصر من فهم أشعارها بسلاسة.

إن هذا "الغموض المُحيِّر" الذي "يُنتِج" أكثر من معنى، و"يفرض" أكثرَ من قراءة، هو ما يسعى إليه ڤكتور نُوْنْيِس في الأشعار التي ضمَّها كتاب المختارات الجديد، الصَّادر بالإنكليزية، في لندن، أواخرَ عام 2022، والمنتقى من مجموعاته الشعرية العشر المنشورة على مدار عشرين عامًا، بين 2000 - 2021، بترجمة صنعتها الأميركية كاثرين هيدين (1971) تحت عنوان "ماهيَّةٌ ثوريَّةٌ" (rebel matter). نلاحظ، هنا، أيضًا، أنَّ الحرفَين الأوَّلَين من كلمتَي العنوان قد خُطَّا بحرفَين صغيرَين small، وليسا كبيرَين Capital بحسب الأعراف الدارجة؛ وهي سمة أسلوبيَّة أُخرى، عند الشاعر، سوف نأتي على ذكرها في الأسطر اللاحقة.

والعنوان، في حدِّ ذاته، عبارة مُنتقاة بعنايةٍ مأخوذة من قصيدةٍ في الكتاب، أرى أنها تُلخِّصُ "جوهر/ ماهية" الكتابة الشعرية عند نُوْنْيِس: ففي الوقت الذي "ضلَّت فيه فنونُ الشِّعرِ طريقها"، كما يقول في ديوانه "مَحاضِر الليل"، فإنَّ "الأغنيةَ تبدأُ/ حيثُ تنتهي الأقوالُ جميعًا"؛ ولهذا تظلُّ القصيدة، عنده، مفتوحةً على اتساع مدى اللغة، واتساع مدى المخيلة، دون نهاية أبدًا، حيث "السَّماحةُ والتَّناغمُ والوضوحُ"، فيكتفي الشاعر بالإيقاع، وبالحقيقة اللغويَّة التي يفرضها ذلك الإيقاع، حين "تقتفي الأفكارُ أثارَ أنْفُسِهَا" - كما يقول في قصيدة "لطخاتٌ أو شيءٌ غير خائفٍ من الضوء" - في "دائرةٍ ثنائيَّة القُطب" حيثُ "لا يكتملُ السَّطْرُ الشعريُّ" فيغدو، في سعيه إلى الكمال، "ماهيَّةً ثوريَّة".

بحثٌ عن صلصال اللغة النقي والأصل الذي شكّل الكلام

كما أنَّ "القصيدة"، عند نُوْنْيِس، عضويَّةٌ (organic). فهي لا تُبنَى من الخارج بِقَدْرِ ما تتشكَّل من الداخل. ولا تكاد تختلف في "حياتها السرية"، قبل خروجها إلى العلن، عن حياة الكائن الحي المُتعضِّي (الكائن العضوي) في علاقاته المتبادلة؛ ليس مع مكوِّناته هُوَ فحسب، وإنَّما مع المحيط الذي يحيا فيه أيضًا. فالقصيدة، وفق تطوّرها العضوي، كائنٌ حيٌّ متعدِّد الخلايا، حيث تعمل كلُّ خليَّةٍ على بناء نسيجها الخاص الذي يتَّسق في النهاية مع النسيج الكلي ويتَّحد فيه. ألم يقل الشاعر في إحدى قصائده إنَّهُ "يُشيِّدُ الشِّعرَ خلايا"؟ 

ولتحقيق هذه السِّمة، يعتمد الشاعر على نظام "التَّقطيع" (line breaks)، في تحديد طول السطر/ البيت الشعري. هنا، تغدو أنفاسُه هي علامات الترقيم في الحقيقة. وهو، في هذه الأثناء، يتلو القصيدة بصوت عالٍ، ملتقطًا الأصوات بأُذنيه (تغدو الأُذن، في هذه اللحظة، أداةَ قياسٍ أيضًا)، فيتوقَّف حين يتحقَّق التأثير المطلوب، ويمضي دون توقّف إلى أن يعثر على غايته المنشودة. شيء يذكِّرنا بطرائق التجريب عند "شعراء الجبل الأسود" (Black Mountain Poets)؛ شعراء تيَّار "الشعر الأميركي الجديد"، شعراء "ما بعد الحداثة"، كروبرت كريلي وهيلدا مورلي وروبرت دنكن وتشارلز أولسن، الذين سعوا إلى الابتعاد عن النُّظُم التقليدية في النَّظْم، مكرِّسين أنفسهم إلى طرائق القول الشعري (أو: البويطيقا poetics) في حدِّ ذاتها، وليس إلى أعرافه التقليدية المتوارثة: كيف تعمل القصيدة، أو كيف تُحدِث التأثير الذي يسعى إليه الشاعر. 

ولا تكاد تختلف طرائق النَّظم عند فكتور نُوْنْيِس عن تلك التي ضمَّها "مانيفستو" هذه الجماعة، الصادر عام 1950 تحت اسم "الشعر الإسقاطي" (Projective Verse)، والإسقاطي، هنا، هو الذي يُقدِّم مادة غامضة أو بلا أي شكل محدَّد أبدًا، أو "الشعر المفتوح" (Open)، بحسب تسمية أُخرى، (ونلاحظ هنا مدى دقَّة العبارة باستخدام لفظة verse، وليس poetry؛ وهي لفظة تركِّز على نظريَّة النَّظْم: الطَّرائقِ والصَّنعةِ والفنِّ، أكثر من تركيزها على اللغة مِن حيث هي). وهي دعوة كانت قد استجابت، في الأصل، إلى دعوة الشاعر الأميركي عزرا پاوند (1885 - 1972) حين ناشد الشعراء الشباب بـ"التَّأليف في حدود العبارة الموسيقية، وليس في حدود بندول الإيقاع". 

ولذا، نجد ڤكتور نُوْنْيِس يؤلّف قصائده "وفق الحقل" (field)؛ فإذا كانت "المقاطع اللفظيَّة syllables هي التي تكوِّن السطر/ البيت الشعري، فإن الأسطر/ الأبيات هي التي تكوّن الحقل" الذي هو فضاء مفتوح. تغدو القصيدة، عنده، على شاكلة "شعراء الجبل الأسود"، فضاءً مفتوحًا لا يحدُّه شيء؛ أو تغدو "حقل فعل/ حركةٍ" (Field of Action) - أو "حلبة صراع" تتصارع فيه اللغة مع نفسها لتعثر على نفسها - كما هي الحال عند الشاعر وليام كارلوس وليامز (1883 - 1963) أحد أقطاب الحداثة الشعرية في أميركا. هُنَا، يُصغي الشاعر إلى اللغة كي يكتشف "الشكل" الذي تودُّ أن "تنكتب" به/ وفيه.

قصيدة عضويَّة لا تُبنى من الخارج بل تتشكَّل من الداخل

كما أن نُوْنْيِس لا يستخدم الأحرف الكبيرة upper case، سواء في عناوين القصائد، أو في مفتتح الجُمل، أو حتى في المواضع التي لا بُدَّ أن تكون بأحرف كبيرة (كضمير الأنا I، على سبيل المثال، حيث يكتبه بحرف صغير lower case). وهو "تكنيك" يذكِّرنا بطرائق الكتابة عند الشاعر الأميركي المعروف إي. إي. كمنغز (1894 - 1962) الذي درج حتى على كتابة الحروف الأولى من اسمه كلِّه بأحرف صغيرة على خلاف المُتعارَف عليه في اللغة الإنكليزية. وكان كمنغز قد ابتعد، أيضًا، عن الأسلوب التقليدي في استخدام علامات الترقيم كي "يجذب انتباه القارئ إلى الكلمات في حدّ ذاتها"، وهو أسلوب يُعرف في التقليد الأكاديمي بنزع الطابع المألوف عن الشيء، أو تجريده من خصائصه السائدة. وهذه سمة أُخرى يتشارك فيها ڤكتور نُوْنْيِس مع كمنغز في طرائق النَّظم.

الصورة
ماهية ثورية - القسم الثقافي

ولكي يُحقَّق نُوْنْيِس "أسلوبه" الفريد في النَّظْم الشعري، نرى أنه قد لجأ إلى ما يمكن أن أُسمِّيه "شعرية الملحوظات اليومية"؛ فلقد تخلَّى، منذ مطلع عام 1999، عن كتابة قصائده، بخطِّ يده، كلٍّ على حدةٍ، مستعيضًا عن ذلك بالكتابة المتواصلة، بلا غايةٍ محدَّدة، أو عناوين معيَّنة، أو انقطاعات مقصودة، في دفاتر ملحوظات notebooks. تغدو "القصيدةُ"، في هذه اللحظة، مجرَّد "ملامح" منثورة في الدفتر، نثرَ الذي "يصنعُ" ثُم يحفظ صنعته في صندوق. ثُم ينتقل، بعد انتهاء الدفتر عن بكرة أبيه، إلى "رقن" أشعاره على شاشة الحاسوب، لتأخذ "شكلها النهائيَّ" (إنْ كان ثمَّة شكلٌ في الأصل). 

وهو، إذ يستخدم هذا "التكنيك"، فإنه لا يركن إلى حدود الورقة البيضاء، الحدود الملموسة، وإنَّما يلجأ إلى صفحة الحاسوب التي تمتدُّ إلى ما لا نهاية: ينتقل من المحدود والمُقيَّد إلى المُطلَق والأبدي والمفتوح على اتساع الكون الذي لا يُعرَف من أين يبدأ ولا إلى أين ينتهي. إنَّه إبحار في العوالم الأخرى. فَمِن سطر واحد في الدفتر قد يستلهم كتابة قصيدة طويلة على الحاسوب، تحتلُّ كتابًا بأكمله، ومن صفحة كاملة مكتظَّة بالكتابة قد يستخلص قصيدة هايكو، أو جملة واحدة فقط تصلح أن تكون شعرًا يُكتَب. يترك الشاعر لهذه الأشعار أن "تنتقي" نفسها بالشكل الذي ترى هي فيه نفسها عليه، كأنَّ الشاعر، في هذه الحال، مجرَّد "وسيط روحاني"، إن جاز التعبير، بين القصيدة، كتكوين كتابيٍّ، وبين لغة القَصيد (لغة القول الشعري) كاحتمال مفتوح على الأبد؛ هُوَ مُستحضِرٌ للَّغةِ فحسب، يبحث عن ظلِّ اللغة المحجوب، أو هو، بالأحرى، يبحث عن روحها المفقودة. 

هنَا، تغدو "الأفكار الحقيقيَّة في القصيدة ليست تلك التي تخطر ببال الشاعر قبل كتابة القصيدة" على حدِّ قول الشاعر المكسيكي أكتاڤيو باث، "ولكنَّها التي تظهر في العمل بعد ذلك" سواء أكان ظهورها "وفقَ تصميم/ شكل يختاره الشاعر أم كان بمحض الصُّدفة. فالمحتوى ينبع من الشكل، ولا ينبع الشكل من المحتوى. فكلُّ شكل يُنتج فكرته الخاصة، ورؤيته الخاصة عن العالم. للشكل معنى، ومعنى القصيدة لا يكمن في ما يودُّ الشاعر قولَه، وإنَّما في ما تقوله القصيدة فعلًا. فثمَّة فارق كبير، إلى حدِّ التَّناقُض، بين ما "نعتقدُ بأنَّنا نقولُه وبين ما نقوله في الواقع".

إن استراتيجية بناء قول شعري متحرّر من كلّ شكلٍ إلا الشكل الذي يرتضيه هو لِنَفْسه، تجعل كلّ قارئ يصنع مفهومه الخاص، أو معناه الخاص، لكل عبارة في القصيدة. هنا، لا تشير القصيدة، مثل ما يقول أكتاڤيو باث (أو "باس"، بحسب الإسبانية المكسيكيَّة) "إلى أيِّ شيء خارج نَفْسِها؛ ما تشير إليه الكلمة هو كلمة أُخرى. فلا يكمن المعنى خارج القصيدة، بل في داخلها، ليس في ما تقول الكلمات، وإنَّما في مَا تقوله الكلماتُ بعضُها إلى بعض". وهذه "الحواريَّة" التي لا تنقطع، بين الكلمات والقصيدة، من جهةٍ، وبين القصيدة والشاعر، من جهةٍ ثانية، وبين القصيدة والعالم، من جهةٍ ثالثة، هِي "سمةٌ" أُخرى يسعى إليها ڤكتور نُوْنْيِس، لا سيَّما حين يقول في حوار معه، إنَّه يبحث عن "شعرٍ تشاركُيٍّ وليس سياسيًّا، تواصليٍّ وليس واضحًا، حواريٍّ وليس تخاطُبيًّا، كوبيّ وليس قوميًّا بالضرورة". 

وبعيدًا عن السِّمات الأسلوبية، التي هي أساسيَّة في طرائق مقاربة أشعار ڤكتور نُوْنْيِس، فإن شعره حافلٌ بالمعاني والصور البديعة. فلا تكاد تخلو قصيدة من الإشارة إلى الليل، سواءً باسمه الصريح أو باستعارة تدلُّ عليه. ولكنَّ الليل، عنده، ليس هو الليل الذي تراه الخليقة في كل ليل، بل هو ليلٌ آخَر. يقتبس الشاعر، في ديوانه "مَحاضِرُ اللَّيل"، على سبيل المثال، قولَ الشاعر المكسيكي أكتاڤيو باث: "اللَّيلُ في نافذتي/ يصنعُ ليلًا آخَر"؛ ومقولةَ الشاعر الكولومبي خايمي صاينز (1921 - 1986): "لا دَخْلَ لِلَّيلِ البتَّةَ/ بِاللَّيلِ الذي نراهُ". إنَّهُ ليلٌ يُجلّيه الليل نَفْسُه؛ أو، بالأحرى، هو الليل "الأصلُ" الذي يُجلِّي ذاتَهُ/صورتَهُ الحقَّة للشاعر، كي يُطلَّ الشاعر، ليس على حقيقة الليل/ الوجود، في حدِّ ذاته، وإنما على حقيقة وجوده هو. فالشيء الذي يُرَى ليس هُوَ الشيء في الأصل، وإنما الصورة الأُخرى التي يصنعها الشيء لنفسه في عين الناظر أو، بالأحرى، هو الصورة التي يراها الشاعر نفسه عن الشيء ذاته؛ أو هُوَ الصورة "الحقَّة" التي يُجلِّيها الشيءُ ذاته لمن يشاء، أنى يشاء، وكيف يشاء؛ فالشاعر لا يرى الأشياء على "صورةِ" ما يراه غيرُه، وإنما يرى ما تراه المخيّلة وما تراه اللغة ذاتها في لحظة التجلِّي. 

فاللغة، هنا، هي العين التي ترى. عينُ اللغة التي تبصِرُ بعين المخيّلة حقيقة الشيء الذي لا يُرَى إلا حين يتجلَّى بأحواله كلّها في الروح، فتغدو اللغة ليست العين فقط، بل اليد التي تتلمَّسُ الطريق في العتمة أيضًا، والمُرتقَى الذي يصعد عليه الشاعر كي يظفر بالثمرة التي هي القصيدة، أخيرًا؛ فلا معنى ولا وجودَ أو حياةَ للشاعر خارجَ القصيدة. إنَّه ليل الروح، لا ليل الجسد؛ ليلُ الملكوت الشعري، يدخل الشاعر هذا الملكوت فيرى: "الليل الذي هُوَ ضلعُ المرأةِ الأيسر"، "الليل غير المدموغ الطافح بالقَرنفُلات الغامضات"، "ليل ما بعد الحداثة"، "اللَّيل السَّقيمَ الذي لا يبرأُ"، "الليل الذي بلا ساعاتٍ"، "الليل المخطوط على نحوٍ رديءٍ"، "الليل الذي يعبر الأشياء"، "الليل العصيَّ على التفسير الذي يُفسِّرُ العالَم". 

ڤكتور نُوْنْيِس شاعر مُقيم دائم في الليل إقامة الذي يُفتِّش عن نفسه في القصيدة، على شاكلة الشاعر والفيلسوف الكوبي خوسيه ماتري (1835 - 1895) الذي قال، قديمًا: "لِي وطنان: كوبا والليل".

كما أن شعره حافلٌ بالإيروتيكيِّ المُطوَّقِ بطيَّاتٍ سوريالية كثيفةٍ، ولكنَّها شفيفةٌ في الوقت ذاته: كثيفة من حيث الصور الشعريَّة التي تكتنف المعاني؛ وشفيفة من حيث تجلِّيها واضحةً لعين القارئ حين يُمعِنُ خيالُه الجامح في طبقات اللغة التي تأخذ الشعريَّ إلى أقصى طاقات الخيال أو، بالأحرى، التي تأخذ الخيالَ إلى أقصى طاقاته الشعرية. نجدُ الجسدَ المُشتهى، وقَد قُدَّ مِن فراغ، قُدَّ مِن شَفَقٍ، "جسدًا حافلًا بالنَّحلِ". إنَّه "الرُّوح العارية" التي تحوِّم فوق جسد الشاعر، لا لتسكن فيه، وإنما كي تظلَّ حائمة إلى الأبد. إنهُ الجسد "الذي يقرأ عليه مزقة الفراغ"، و"يسمعُ بكلِّ شبرٍ مِن جِلدهِ/ كيفَ يخدشُ الضَّوءُ خيوطَ اللَّيلِ"؛ "الجسد الذي يتعرَّى/ بينَ الرَّائحةِ المُدلهمَّةِ والبحيرةِ المتجمِّدةِ"، فيشعرُ "بروحِ المرأةِ، فَترتدي أيَّامُه عريَها". إنَّه الجسدُ الذي "لا يُخفِي رغبةً أبدًا"، والجسدُ الذي "يخرجُ مِنهُ حادًّا كخنجر". ولكنّ الرغبة ليست رغبةً في الجسد، في حدّ ذاته، بل هي رغبة في الحياة، فـ"الرَّغبة هي الوحيدةُ التي تُخِيفُ الموت".

ولا ننسى، في نهاية هذه العُجالة، الإشارةَ إلى ملمح أساسيٍّ آخر من ملامح الشعرية عند ڤكتور نُوْنْيِس؛ أقصدُ "شعريَّة الاغتراب" التي لا ينفكّ يشير إليها النقَّاد، كلَّما تطرَّقوا إلى الحديث عن شعره، بسبب تنقُّله، منذ طفولته، للعيش في أكثر من مكان، لا سيَّما، وهو المولود بهاڤانا عامَ 1955، قد اختار الرَّحيل عن كوبا في العام 1995، والعيش، بمحض إرادته، في الولايات المتحدة، ليس لأسباب سياسيَّة، بل كخيار إنساني. يتحدَّث النقاد عن الخيارات الشعرية التي نجمت عن تجربة "الخيار الواعي في عدم تفضيل شعب على آخَر، وفي أن يكون في مكانَيْن مختلفَيْن في الوقت ذاته". تلك التجربة التي هي في "جوهرها إعادةُ تفكيرٍ في تجربة الأخرويَّة otherness حيث يسود التماهي مع الذاكرة، والتجربة اليومية، والمكان، على أيِّ نوع آخَر من التَّماهي". ولهذا، لا يتحدّث الشاعر عن كونه "شاعرًا في المنفى"؛ فهو، بالرَّغم من عيشه في الخارج، إلَّا أنَّه لم "يغادر كوبا أبدًا"، على حدِّ قوله. فالشاعر الحقيقيُّ لا يشعر بالاغتراب الحقيقيِّ إلَّا حين يشعر بأنَّ روحَهُ قد نُفِيَتْ عن جسده. هنا تغدو إقامة الشاعر في المكان إقامةً "على" الأرض، باستعارة عنوان ديوان بابلو نيرودا، وليست إقامةً "في" الأرض: تغدو الأرض جميعُها وطنًا للشاعر، ولا يغدو المكان الجغرافي المُحدَّد هو الوطن فحسب. 


* شاعر ومترجم أردني فلسطيني

المساهمون