يوميات غزة: يتامى البيوت

15 يوليو 2014
أيمن بعلبكي/ لبنان
+ الخط -

يحتاج المرء إلى معجزة كي يعيش في أرض يحيا بشرُها ويموتون بالصدفة.

ألا فليكن الرب معهم هذه المرة، ذلك أنهم ينظرون إليه بوصفه الفاعل التاريخي الأول. أو لتكن، لمن يحبّون النظر من زاوية مختلفة، تلك الصدفةُ الطيبة، كأن ترتجف يد الطيّار جزءاً من الثانية، قبل أن يضغط الزر، على شاشة الكمبيوتر. أو مثلاً ـ وهو أمر خارق للعادة ـ أن يفكّر بالمقصوفين كأطفال ولهم حكاياتٌ كأطفاله، لا مجرد علامة [+] ما إن تظهر أمامه حتى يحجبها الدخان الأسود ثم تذوب.

لا غرو أنهم أُنهكوا. لا غرو أنهم ينحّون الإنهاك حين يتكلمون. إنه الحرص على معنوياتٍ عالية بعدما علا الركام، وقد كان بيوتاً.

آه.. بيوتٌ وضعوا فيها تحويشة أجيال لترتفع. عامل الطوبار يقول لجاره الشاعر: اذهب لأحدهم ليعلّمك معلّقات الرثاء. يقول: وكيف لا ترثي وسوى الطلول خلف ظهرك طلول؟

الشاعر يظنُّ أنّ جاره على حقّ، نظرياً على الأقل. فحارته الصغيرة فيها حتى الآن خمسة طلول، والحارة التالية فيها سبعة. إلخ. غير أن ما لا يعرفه الطوبرجي أن الشعر ليس مثل عامود الباطون. ولا يواتيك بالمتر والمسامير وخيط الشازور، بل كما يريد هو نفسه.

يجلس الشاعر ليكتب ـ بانفعال السنوات الأولى ـ عن عمارة جاره أبو إدريس. العمارة التي بخمسة طوابق وبتسعة أولاد متزوجين، كل واحد منهم في رقبته "كوم لحم". العمارة التي لحسن الحظ هربوا منها قبل تسويتها بالأرض بستين ثانية كاملة.

يكتب فتخرج القصيدة مسخرة. يقوم ولديه شعور بالنضوب والعار. ماذا يفعل وهو ليس هذا ولا ذاك، من الرثّائين ذوي الباع؟

بيت أبو صبيح طار. بيت صيام البقية في حياتك. بيت النجار، الحداد، المدهون، وباقي الصنائع.

آه يا جَدّ، ربّك رحمك فأخذك. لو عشتَ لليوم، كنت ستكثّف صلواتك وأدعيتك، مع أنها ولا مؤاخذة لا تصل. فما من بريد أفقي في غزة ولا عمودي. كيف ستصل الرسائل إذن؟ ينبغي اكتشاف بريد جديد، غير الورقي والإلكتروني، لأنّ شفيعَكَ لا يستخدمهما حتى يوم الناس هذا.

(يُؤمل أن يفعلها عما قريب)

يمشي، والغبار في دمه. يمشي والخرائب بين ساقيه. يمشي ويعرف أن الذكريات المصنوعة من أحاسيس وحواسّ، يتلاشى عديدُها بسقوط البيت.. صاعدةً وخفيفة مع النار والغبار والدخان. ويقال إن هذا من طبائع الأمور أيضاً.

لا شك أن أبو صبيح وصيام والنجار والحداد والمدهون أمسوا الآن أيتام ذكريات، كنتيجة لفقدانهم بيوتهم.

ثم إنه لا ينسى أن يتامى البيوت القدامى في الحروب السابقة لم تُبنَ بيوتهم بعدُ.

لديكم وقت طويل لتعيشوا كيتامى أيها اليتامى الجُدد.

أنتم مشغولون بتوفير ملاجىء عاجلة على الأغلب ستكون في مدارس وكالة الغوث. وهو الشاهد المقتول مشغول بكيفية استخراج نص أدبي من هذه المسخرة.

بالفعل: يحتاج المرء إلى معجزة كي يكتب.

(برشلونة)

المساهمون