وهج السياسة

27 يناير 2023
بوريس باسترناك، 1958 (Getty)
+ الخط -

حين نال الكاتب الروسي بوريس باسترناك "جائزة نوبل للأدب" عام 1958، عن روايته "دكتور جيفاكو"، قالت إحدى المجلات السوفييتية المشهورة آنذاك، وهي "العالم الجديد"، إن باسترناك قد ألحق عاراً بالمهنة المحترمة للكاتب السوفييتي، ولم توضّح إن كان قد فعل ذلك في روايته، أم بسبب حصوله على الجائزة، بينما طالب أحد اجتماعات الكتّاب الحكومة بتجريد الكاتب من الجنسية السوفييتية، وأطلقوا عليه لقب "الخائن".

لا يُعرَف بوريس باسترناك في العربية إلّا من خلال هذه الرواية، ولكنَّ معظم الكتُب التي أرّخت للأدب الروسي في القرن العشرين - وهي قليلة للغاية في اللغة العربية، على الرغم من "الصداقة الطويلة" التي ربطت الأنظمة العربية بالاتحاد السوفييتي السابق - تعتبر أنه من ألمع الشعراء الروس في القرن السابق. وليس لدينا سوى ترجمات قليلة من شعره، وأكثرها تُرجِم عن لغات وسيطة غير الروسية، وأهمّها ما قدّمه صبري حافظ في كتابه "الأدب والثورة"، حيث كتب أيضاً دراسة عن الشاعر في خمس وعشرين صفحة من الكتاب، نُشرت في المقدّمة التي أضاء فيها على الشعر الروسي الحديث، وفيها يقول إنّ روح هذا الشاعر وخطّه الشعري تركا تأثيراً كبيراً في حياة الشعر الروسي من بعده، إلى حدّ أنّ جيلاً من الشعراء الذين جاؤوا من بعده يُمكن أن نسمّيهم "الباسترناكيين" في الشعر.

أمّا النص العربي الذي لدينا من رواية "دكتور جيفاكو"، فقد صدر عام 1959، أي بعد عام من نيله الجائزة، واللافت أن مَن ترجمها لم يجرُؤ حينئذ على وضع اسمه على الغلاف، وكتب بدل ذلك أنه "نخبة من الأدباء العرب"، ولم يُطبع الكتاب مجدّداً إلّا بعد أربعين سنة من صدور تلك الطبعة، حين أعادت "دار المدى" نشر الرواية عام 2001. ولا نعرف حتى اليوم الأسباب التي جعلت هذه "النخبة" تُحجم عن إعلان أسماء أعضائها، بينما ألّف الشاعر السوري أدونيس في العام نفسه كتاباً بعنوان "قضية باسترناك"، ونشره باسمه الحقيقي، أي علي أحمد سعيد.

رفض أنصار الاشتراكية قراءة الرواية، بينما قُرئت في الغرب قراءة سياسية

تشكّل الوقائع المرتبطة بهذه الرواية رواية أُخرى، وقد جعلت منها لارا بريسكوت موضوعاً لعمل بوليسي بعنوان "ما لم نعرفه من أسرار دكتور جيفاكو"، وفيها مغامرة لصحافيّتين تعملان على إيصال الرواية من إيطاليا إلى الأراضي الروسية.

ربما كانت هذه الرواية اليتيمة لهذا الشاعر المثال الأكبر، في القرن العشرين، على تدخّل السياسة في الأدب، فحين رفضت السلطات السوفييتية نشر الرواية في روسيا، وافقت إحدى دُور النشر الإيطالية على ذلك، وقد استثمرت الدعاية السياسية في الغرب الرواية التي تنتقد المرحلة الأُولى من ثورة أكتوبر الروسية، للتنديد بالتجربة الاشتراكية كلّها، وفي الغالب فإنّ كثيرين من أنصار الاشتراكية رفضوا قراءة الرواية، بسبب الدعاية. فأن تمجّدها صحافة الرأسمالية الصفراء يعني أنّها مشبوهة، وفي المقابل فقد قُرئت من قبل أعداء الاتحاد السوفييتي قراءة سياسية، لا تحفل بأدبيتها.

مات الاتحاد السوفييتي، وماتت الدعاية الرأسمالية، وإذا كان الروائي قد مات جسدياً بعد هذه القضية بسنتين (1960)، فقد بقي اسمُه واسم روايته حيَّين.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون