ولو بقلبه

08 مايو 2021
خليل قويعة/ تونس
+ الخط -

لم تثبت صورة المثقّف العربي على حال. ففي مرحلة طويلة نسبياً، تمتد من أوائل القرن الماضي إلى أوائل القرن الراهن، تجلّت وتنوّعت بين قومي مستنير حالم بالتغيير، ويساري مؤمن بمستقبل مشرق، ومتديّن صاحب نظرة ثابتة إلى عالَم لا يصلح إلّا بما صلح به سكّان ماضيه، ومتغرّب لا يجد لحياته لذّة إلا في التقولب حسب القوالب الغربية، وكلّهم بُذل وضُحّي.

كل هذه صور تترى تحوّلاتها الآن وتختلط؛ ينتقل أصحاب يسار إلى مواقع أصحاب يمين، ويتخلّى قوميون عن نظرتهم إلى أُمّة واحدة ويلتصقون بطوائف ومذاهب، ويتّخذ المتديّن موقفاً أقرب إلى موقف المتغرب... وهكذا.

ويشمل التحوّل والاختلاط القارئ والمستمع والمراقب، حتى يكاد الواحد منهم لا يتعرّف على ملامحه أو ملامح مَن يعرف، كأنّما الأرض غيرت أحوالها، وانقلبت سننها رأساً على عقب. فيصبح داعية التحرّر أكثر شغفاً بتبرير تسليم الرقاب لسلاسل العبودية، وصاحب المثل الاشتراكية وسيطاً صغيراً في حوانيت الرأسماليين، أمّا المتدين فيصبح صورة كاريكاتيرية تشبه صورة رسمها المتنبي للأمّة التي ضحكت من جهلها الأمم في الأيام الخالية، أمّة أصبحت غاية الدين عندها حفّ شارب وإطلاق لحية.

هذه صور مفاجئة، إلّا أنها أصبحت مألوفة في أعين أجيال لم تتعرّف على صور المثقّف في ماضيه، ولذا فقدت القدرة على مقارنتها بصوره في حاضره. هذا هو حال الإنسان تحت سماء غابت عنها حسنات الذاكرة، فغابت بالتالي قدرته على التصويب ولو بأضعف الإيمان، أي بقلبه.


* شاعر وروائي وناقد من فلسطين

موقف
التحديثات الحية
المساهمون