وقفة مع مظفّر سلمان

15 ديسمبر 2022
مظفّر سلمان
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة سريعة حول انشغالاتها الإبداعية وجديد إنتاجها وبعض ما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "لغة الفوتوغرافيا عابرة للحدود، وأثرها خطرٌ لو حوِّلت إلى إيديولوجيا"، يقول المصوّر السوري في حديثه إلى "العربي الجديد".



■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

- بعد تلك السنوات العشر من الملحمة السورية، نقل المجتمع السوري تجربته إلى مستويات أعمق من خلال الخُلاصات والمراجعات الشخصية والعامّة، فأصبح الواقع السوري الجديد موجوداً كلّياً في البُعد النفسي للسوريين، بحيث يصعب على الرؤية الفوتوغرافية التقليدية التعبير عنه. هذا يجعل الصورة الخبرية ضعيفة في قدرتها على توثيق هذا العالم المشتَّت وما يدور في داخله، ولا أجد، كمصوّر، حلّاً في التصوير المفاهيمي الذي لا يبني ذاكرة مصوّرة بقدر ما يبني ذاكرة تِقنية فنّية. هذا إذاً ما يشغل بالي: إيجاد أسلوب بصَريّ أستطيع من خلاله توثيق عالم لم يعد مرئياً في الوقت الذي تعتمد فيه الصورة على كل ما هو مرئيّ.


■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟

- يمكنني القول إن "تسعة وتسعون اسماً لحلب" كان آخر أعمالي، على الرغم من أنّني قد أنجزته منذ سنوات عدّة، ولكنّ عرضه على نطاق عام، بعيداً عن موقعي الشخصي، لم يحدث إلّا منذ بضعة أشهر فقط، بسبب أنه كان يحمل تحدّيات تقنية دفعت موقع "خط 30" الذي عرضه إلى تأجيل نشره ثلاثة أشهر، وهو الوقت اللازم لتعديل لغة الموقع البرمجية. أمّا آخر معرض فرديّ ملموس واقعياً، فقد كان في باريس عام 2015. عملي القادم هو كتاب مصوَّر يتضمّن حكاية تبدأ منذ سنوات ما قبل الثورة السورية وحتى قيام الحرب؛ أدمج فيها الشخصي والعام بمزيج من سرد بصري ومكتوب، في محاولة لوضع بورتريه واضح للإنسان السوري، من خلال أكثر من 100 صورة أرشيفية.


■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟

- لا أعتقد أن العالم سيكون أفضل حالاً إنْ تشكّل على أساس رؤيتي الخاصة. سيكون أسوأ بالتأكيد. هذا ما تعلّمناه من أية رؤية شمولية. لذلك، لا أنظر إلى إنتاجي إلّا بوصفه تعبيراً عن وجهة نظر واحدة، ربّما يكون لها مساهمة عامة وربما لا. ولهذا، فإن من الطبيعي ألّا أدلي بوجهة نظري إلّا عندما أكون راضياً عنها ــ ما عدا ذلك أفضّل الصمت. وربما يكون هذا تفسير انقطاعي عن الإنتاج خلال السنوات الأخيرة.

لو قُيِّضَ لي لاخترتُ إدخال التصوير إلى المناهج التعليمية

■ لو قُيِّضَ لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟

- قبل عشرين عاماً كنتُ غارقاً في ترميم الآثار وتعلُّم اللغة التدمرية القديمة في قلب البادية السورية، قبل أن أجد نفسي في وسطٍ من العلاقات المافياوية التي دفعتني فعلاً لتغيير المسار واختيار الفوتوغراف، الذي وجدت، أيضاً، أنه محكوم بمنظومة أخطر بكثير من مافيا الآثار، كونه لغة عابرة للحدود، تُحَوَّل إلى أداة إيديولوجية أثرُها أخطر بكثير من عصابات تهريب الآثار. لو قُيِّضَ لي لاخترتُ إدخال الفوتوغراف بطريقة ما للمناهج التعليمية وتعليم الأطفال كلّ ما يتعلّق بالفوتوغراف (تقنياته، تاريخه، مدارسه، نتاج كبار المصوّرين، تأثيراته، استخداماته...)، حتى يتسنّى لهم امتلاك القدرة على التحرُّر من سطوة هذه الأداة الإيديولوجية المخيفة، وإعادة تطويعها من جديد.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- بعد أربع سنوات يصبح عمري نصف قرن. كلّ السنين تلك، كنتُ أشاهد فيها كيف الأب وربّ العمل والتاجر والاقتصادي وضابط الجيش والحكومة والطغاة والمتحاربون يستخدمون الغذاء كسلاح ضدّنا. هذا العالم هو نتاجنا نحن، واستخدام الغذاء للسيطرة على الآخرين من خلال إخضاعهم وتخويفهم أو إجبارهم على أشياء محدّدة ــ حتى لو كانت تحت ذريعة التعليم ــ، هذا يعني أن الأساس الأخلاقي غير موجود في عالم يتبجّح كلّ يوم بأخلاقه على منصّات الأخبار ومكبّرات الذات الاجتماعية. لذلك، أنا فعلياً لا أنتظر شيئاً من عالم كهذا، ما زال أمامه الكثير ليتعلّمه حتى أقول إنني يمكن أن أنتظر منه شيئاً. 


■ شخصية من الماضي تودّ لقاءها، ولماذا هي بالذات؟ 

- المصوّر الأميركي ويليام إغلستون. لم أستطع تذوّق صور إغلستون عندما رأيتها لأوّل مرة منذ 12 عاماً تقريباً؛ كنت ما أزال مهووساً بمفهوم اللحظة الحاسمة عند هنري بريسون. لم ينكر إغلستون إعجابه بإنتاج بريسون، ولكنّ عبقريته أنتجت كتاب "الغابة الديمقراطية"، وفيه نتلمّس مفهوم دمقرطة اللحظة، بمعنى أن لا لحظة أكثر أهمّية من أُخرى. ولكنّ هذا النوع من الصور يحتاج ربما إلى تجربة حياتية غنية حتى يستطيع المتلقّي تذوُّق هذه الأعمال التي تبدو روتينية ومملّة بشكل مفرط. لذلك لم يكن غريباً أن تكتب صحيفة "نيويورك تايمز" عن أوّل معرض لإغليستون أنه أسوأ معرض في التاريخ، قبل أن يصبح أيقونة أميركية.

أفضِّل الصمت على أن أُدلي بوجهة نظر لستُ راضياً عنها

■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

- أعود دائماً إلى كتاب "مرايا"، من تأليف إدواردو غاليانو: فيه ما يشبه تاريخاً للعالم، أجد أسلوبه ملهماً جدّاً فوتوغرافياً، فهو يكتب وكأنه يصوّر، يجمع أشياء بعيدة عن بعضها ويخلق بينها علاقات وهمية تُنتج في النهاية مقولة فريدة وثاقبة.


■ ماذا تقرأ الآن؟

- أعيد قراءة "ثلاثية التوأم" للكاتبة أغوتا كريستوف. ما زلتُ معجباً بأسلوبها الذي يكشف مستويات الحقيقة المختلفة لحدث واحد يظن الجميع أنه الحقيقة النهائية. أحاول الاستفادة من هذا الأسلوب فوتوغرافياً.


■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

- الشيء الوحيد الذي أتسوّله من هذا العالم هو أغنية أصيلة. أمّا عن التجارب الموسيقية الجيّدة، فهي كثيرة جدّاً، ولكن في معظمها تكون مجرد أصوات جيّدة تعيد إنتاج التراث، فهو منطقة آمنة تضمن لتلك الأصوات الشابة دخلاً مقبولاً. الموهوبون الذين يملكون مشاريع أصيلة نادرون، لذلك أستمع إلى الراديو في أغلب الوقت، وحالي هذا يشبه حال منقّب يبحث عن ذهب في النهر بوعاء المطبخ، لذلك، عندما أجد شيئاً جيّداً أخبّئه في ملفّي الخاص والسرّي جدّاً وأطفئ الراديو من شدّة التعب.



بطاقة

مصوّر فوتوغرافي سوري، يعيش منفيّاً في فرنسا منذ عام 2014. عمل مع وكالتي "أسوشييتد برس" و"رويترز". نُشرت صوره في العديد من الصحف والمجلّات العالمية، وكانت غلافًا لبعضها، مثل "نيويورك تايمز". عُرضت صوره في عدّة معارض فردية وجماعية في دمشق، وروما، وكوبنهاغن، وشتوتغارت، ومونتريال، وكاليفورنيا. كما أُقيم معرضٌ فرديّ له، في باريس، عام 2015، تحت عنوان "حلب، النقطة صفر". صدر كتابه المصوَّر الأوّل، "أصابعي لا تشير إلّا إلى الفراشات"، عن "الدار العربية للعلوم ـ ناشرون"، في بيروت، عام 2012.

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون