تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أَسئلة سريعة حول انشغالاتها الإبداعية. "يُسيطر الصهاينة على الوسط الموسيقي في بريطانيا، ولا تتعاون المهرجانات الموسيقيّة مع الفنانين المستقلّين، ناهيك عن الاستشراق المُتفشّي"، تقول المغنّية الفلسطينية في حديثها إلى "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلكِ هذه الأيام؟
- أقوم حاليًا بالعمل على الألبوم المقبل، وهو الجُزء الثاني من مشروع "هذه الأرض هي أرضك"، الذي بدأتُ بالعمل به بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قراراً بحَظر السفر على مواطني بعض الدُّول الإسلاميّة عام 2017. أما الجُزء الثاني الحالي، فهو يبحث في تراث الأندلس، ونقوم بإهدائه إلى ذكرى المُخرج السوري الراحل حاتم علي (1962 - 2020)، والمُغنّي والشاعر الأندلسي القَومي كارلوس كانُو (1946 - 2000).
■ ما هو آخر عمل صدر لكِ وما هو عملكِ القادم؟
- الجزء الأول من مشروع "هذه الأرض هي أرضك"، الذي صدر العام الماضي، والذي أهديناه إلى ذكرى المُغنّي والناشط السياسي الإيراني الراحل محمد رضا شجريان (1940 - 2020). من المعروف أنّ شجريان كان مُعارضًا لنظام الشاه ونظام الملالي على حدٍّ سواء، وكان قد طلب من الإذاعة الرسمية الإيرانية أن تتوقّف عن إذاعة أغنياته بعد اعتراضه على معاملة النظام لمُعارضيه. الأغنية الرئيسية في الألبوم هي أغنية "مُرغِ سَحَر" (طائرُ السَّحَر)، أشهر أغنيات شجريان على الإطلاق، والتي تتكلّم عن التحرُّر من الطغاة والاستعباد. نظَمَ كلماتها الشاعر الإيراني الكبير محمد تقي - بَهار (1886 -1951)، ولحّنها مرتضى نِي - داوود (1900 - 1990). قمتُ بالتوزيع الموسيقي لهذه الأغنية، وبإضافة آلة العود من عزف المُبدِع باسل زايد من فلسطين. أما الأغنية الافتتاحية فهي من تلحيني لقصيدة "قال المُغنّي" لمحمود درويش، لأن كلماتها تنطبق على سيرة شجريان، وكأنّها كُتبت خصّيصًا عنه. كما تعاونتُ مع مصمِّمة الغرافيك المصريّة لُجَين زاهِر، التي طرَحَت ببراعة القصائد والتصاميم والخطوط بريشة الفنان الإيراني بَهمَن پَناهي. إذ لا أفصل الموسيقا والغناء عن الكُتيّب والتصميم في أعمالي، فهما مرآةُ العمل وعيناه، وإن أخذ ذلك مني الوقت الكثير لإتمام العمل.
عملي القادم مُهدى إلى حاتم علي وكارلوس كانُو
■ هل أنتِ راضية عن إنتاجك، ولماذا؟
- أعطِني اسم فنان أو كاتب أو شاعر صادق راضٍ عن إنتاجه أو إنتاجها. والتركيز هنا على كلمة "صادق"، إذ أسعى جاهدةً إلى أن أكون صادقة مع نفسي، ولهذا أنا لستُ راضية عن أعمالي. أما السبب الخارج عن إرادتي، وعن إرادة كلّ فنّان مستقلّ سياسيًّا وفنيًّا بالمناسبة، فهو الدعم ودعوات المشاركة التي لا أتلقّى الكثير منها كوني من فناني الشَّتات، بالإضافة إلى استقلال مقولتي الفنيّة والوجوديّة. في العالم الغربي، تُمثّل الصعوبات عائقًا كبيرًا نظرًا لسيطرة الصهاينة على الوسط الموسيقي في بريطانيا، وكذلك لعدم تعاون المهرجانات الموسيقيّة مع الفنانين المستقلّين، وتركيزهم على دعوة الفنانين التابعين لشركات إنتاج الأسطوانات (مَصالِح مُشترَكة). ناهيك عن الاستشراق المُتفشّي، بحيث يُفَضِّل منظمو الحفَلات في الغرب الموسيقيين الأكثر "إكزوتيّة" على الموسيقيّين العرب الذين يسكنون بينهم. على سبيل المثال، هناك فنانون ليسوا عربًا، لا من قريب ولا من بعيد، لكن مع بعض الأزياء العربية، وكُحل كليوباترا، وبعض التأوّهات المُغرية على نسخة استشراقية من "مقام الحجاز"، يصبح هذا المغني أو المغنية - بقُدرة قادر - عرَبًا أقحاح. أمّا في العالم العربي، فهناك انطباع بأن الموسيقي العربي، وبالذات الفلسطيني، الذي يعيش في الغرب هو أقل عروبة، وأقل أصالة في الطرح الموسيقي وحتى الوطني. وضعيّة غير جميلة مضطرّة أن أتعايش معها، وهذا بحد ذاته - رغم الألم - يُشكّل مصدرًا مُفاجِئًا للإبداع.
■ لو قُيّض لكِ البدء من جديد، أي مسار كنت ستختارين؟
- كم أبغض كلمة "لو"؛ لأنني لو فتحتُ هذا الباب، لأصبحَ الندم نغمًا بائسًا يؤرّق حياتي، وأنا في غنىً عن هذا. عِوضًا عن ذلك، أكتفي بالدعاء بأن تنجلي الصعوبات التي تُعطّل مسيرتي الفنّية، وأستمر وأستمر. هناك مثل إنكليزي يقول: "كلّما عملتَ بجدّ، أصبحتَ محظوظًا أكثر". أرى في ذلك استثمارًا للسنوات الماضية، عوضًا عن الندم عليها أو على بعضها. أعشق التدريس، وأنا أقوم بهذا عبر ورشات العمل الأدائيّة، خاصة تلك التي أُديرها مع الأطفال والطلاب، والتي أتعلّم منها الكثير وإن كنتُ المُعلِّمة. وكانت نتيجة هذا الصبر عبر العقود أنّ ألبوم "الغِزلانُ النّافِرَة" (2006)، أصبح مُقرَّرًا في المنهاج الموسيقي للمدارس في إنكلترا، وهذه أوّل مرّة تدخُل فيها الموسيقى الفلسطينيّة المُقرَّر الدراسي الإنكليزي. في هذه الحالة، "الحظ" هنا ليس نجاحًا ماديًّا أو فرديًّا، لكنه نجاحٌ جماعي في نشر المقولة الفلسطينية والحفاظ عليها.
أعطِني اسم فنان أو كاتب صادق راضٍ عن إنتاجه
■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
- من أين أبدأ؟ القائمة طويلة، لكنني سأبدأ بالأولويّات: وهي التخلُّص من السلطة الفلسطينيّة لأنها لا تُمثّل أغلب الشعب الفلسطيني. فحالها حال حكومة "فيشي"، أو فرنسا الفيشيّة (1940 - 1944)، التي تعاوَنَت مع النازية ضدّ شعبها. لا فرق أبدًا! أوّل من قام بهذا التشبيه هو إدوارد سعيد، عقب دراسته بنود اتفاقيّة أوسلو. أدعو من الله أن تكون الانتفاضة المُقبلة انتفاضة ضد "متلازمة" أوسلو، وسلطتها، وتنسيقها الأمني. بعد ذلك، سيصبح التفرُّغ للصهاينة أكثر تركيزًا، دون تشتيت طاقات الشعب الفلسطيني في مُقارَعة التنسيق الأمني الذي يُسَلِّم شبابنا لُقمةً سائغةً للاحتلال. حينها سيكون المُحتَل مسؤولًا أمام المجتمع الدولي، لأن الاحتلال "الرسمي" على قُبحه يخضع لقوانين وأعراف دوليّة. لكن طالما استمرَّت السلطة في التمسُّك بمقاليد الحُكم (شكليًّا على الأقل)، فهي بذلك تقوم بأعمال الكيان "القذرة" - كما يقول المصطلح الإنكليزي - دون إخضاع دولة الكيان لأي مُساءلة دوليّة. وهذا ما حدث أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حين انتفض الرأي العام العالمي معها. قد يرى البعض في هذا دعوةً إلى "عودة" الاحتلال، وكأنّ الاحتلال قد رحل عنّا من أصله!
■ شخصية من الماضي توديّن لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- هُم كُثُر، حسب كلّ مرحلة من مراحل حياتي الشخصية والعملية. في الوقت الحالي، هناك شخصيّتان كنتُ أتمنّى لو كان قد كُتب لي أن أتعرّف إليهما قبل وفاتهما، وهُما بالطبع حاتم علي وكارلوس كانُو. حاتم علي غني عن التعريف بالنسبة للمتلقّي العربي الذي تشبَّع من طروحات المُخرج التاريخيّة القيّمة: بدءًا من "الزير سالم"، ثم "صلاح الدين الأيوبي"، ثم "ثلاثيّة الأندلس"، ثم "عُمَر بن الخطاب"، وأعمال أُخرى كثيرة. الفقدان الجماعي الذي صعق العالم العربي بعد وفاة حاتم علي، رحمهُ الله، حالة تستدعي الوقوف الطويل أمامها. أما الغرناطي كارلوس كانُو، الذي لم يخلع الأندلس الإسلاميّة عن هويّته كقومي أندلسي مُعاصِر، يكفيني أن أستشهد بواحدة من اقتباساته المعروفة التي أدلى بها أثناء إحدى حفلاته في المغرب عام 1983، حين هتف أحد الحضور مُناديًا: "أيُّها الغرناطيّ، غَنِّ لنا بالعربيّة!"، فكان جواب كارلوس كانُو: "ليتني أقدر، لقد مضت 500 عام على فقداني لُغتي الأُم" (سقوط غرناطة 1492). اقتباسٌ آخَر اشتهر به هو ما قاله عن آخِر ملوك الأندلس، أبو عبد الله محمد الثاني عشر (1460 - 1527): "لو لم يكُن للحزن أيّ اسمٍ آخر، لسُمِّيَ بُوعَبدِل" (اللقب الإسباني لمحمد الثاني عشر).
يُمثّل الغرب العربَ موسيقياً من باب المخيال "الإكزوتيكي"
■ صديق/ة يخطر على بالك أو كتاب تعودين إليه دائماً؟
- الكنز الوطني المُتمثِّل في الشاعرة والمؤرّخة الأدبية الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي. كان لي شرف تلحين وغناء إحدى قصائدها في ألبوم "الغِزلان النّافِرَة". وهي التي تكرَّمَت وقامت بالإشراف على الترجمات العربية للقصائد والأهازيج في ذلك الألبوم. للدكتورة سلمى كتابان قيّمان ساعداني في مسيرتي الموسيقية: الأول هو ترجمتها إلى الإنكليزية الشعر الفلسطيني في "موسوعة الأدب الفلسطيني المُعاصر". والثاني هو الكتاب الضخم (من جزأين) "الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس". مجهوداتٌ جبّارة في خدمة الأدب العربي والذاكرة الإسلاميّة والمقولة الفلسطينيّة، جزاها الله عنّا وعن كياننا الجَماعي خيرَ الجزاء.
■ ماذا تقرأين الآن؟
- نعود إلى حالة الانغماس التام في مادّة البحث الحالية: إيبيريا المُسلِمَة. بالإضافة إلى كتاب سلمى الخضراء الجيوسي، أنا منغمسة في قراءة كتابات المؤرّخ البريطاني هيُو كينيدي عن تاريخ الأندلس. بروفيسور كينيدي، في رأيي، من أفضل المؤرّخين الغربيّين الذين تناولوا الأندلس بدقّة وشفافية غير مُنحازة. غير ذلك، فأنا لا أدّعي الثقافة والتثاقُف، لأنني عادةً لا أقرأ سوى المواد التي أبحث فيها، وإن كنتُ أبحث في الكثير بحكم طبيعة عملي. القراءة من أجل القراءة ليست من هواياتي، باستثناء قراءة الشعر. ولأنني "غارقة لشُوشتِي" في الأندلس، أقرأ هذه الأيام مجموعاتٍ شعريّة لشاعرات من إسبانيا وأميركا اللاتينيّة مُقيمات في بريطانيا، لتحسين مستوى إتقاني اللغة الإسبانيّة. كما أنوي قراءة رواية "مواعيد قرطبة" للكاتب وليد سيف، العامِل العُضوي الآخَر في ثُنائية وليد سيف - حاتم علي الإبداعية، والذي قدّم لنا تلك الأعمال التاريخية الخالدة.
■ ماذا تسمعين الآن وهل تقترحين علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- لسببٍ ما لا أفهمه، لا أستمع إلى الموسيقى في أيّ وقت آخر سوى أثناء العمل أو الكتابة، سواء كان لهذا علاقة مع موضوع العمل أو لم يكُن. بل ولا أحضر الكثير من الحفلات الموسيقية الحيّة في أوقات الفراغ التي أُفَضِّل أن أقضيها في المطبخ، أو في اللعب مع القطط. العمل الموسيقي الذي أجدني أستمع إليه كثيرًا هذه الأيام هو تلحين وأداء كارلوس كانُو المجموعة الشعريّة "ديوان تَمارِيت" لقوميٍّ أندلسيٍّ آخَر نعرفه جيدًا، فريديريكو غارثِيا لُوركا (1898 - 1936). صدرَت هذه المجموعة الشعريّة عام 1940، بعد مَقتَل لوركا بأربعة أعوام على أيدي الفاشيين في بدايات الثورة الإسبانية عام 1936. رغم أن البُنية الشعرية الصرفة للغَزَل والقصيدة العربيّة ليست مُطابِقة حرفيًّا لتلك المُرادفة لها لأشعار لوركا في هذه المجموعة، إلا أنه تعمّد تسميتها بهذه الأسماء العربيّة. تمامًا كما فعل مع اقتباس اسم "ديوان" (المُشتَق من الفارسية) لمجموعته الشعرية، تيَمُّنًا بشعراء غرناطة الأندلسيين. بدأ كارلوس كانُو في العمل على هذا المشروع في السبعينيات من القرن الماضي، مرورًا بالثمانينيات، إلى أن صَدَر الألبوم عام 1998. وهذا يُعطيني الأمل بأنّ عدم التعجُّل في العمليّة الإبداعيّة هو الطريق الأفضَل، وإن كان الأطوَل.
سيرة
موسيقية ومغنّية وإذاعية فلسطينية، من مواليد مانشستر عام 1963، وصفتها الصحافة البريطانية بأنها "السفيرة غير الرسمية للثقافة الفلسطينية". تعلَّمت عزف البيانو والغناء منذ سنّ الرابعة أثناء نشأتها في الكويت، حيث عمل والدها طبيباً. وهناك تأثّرت بتلاوة القرآن، وبأنماط الغناء العربي والخليجي والفارسي والأفريقي. لدى عودتها إلى بريطانيا، قرّرت التفرُّغ لدراسة الموسيقى وللبحث في المادة التراثية الفلسطينية، وعملت بهذا الصدد في "المتحف البريطاني"، من خلال إدارة ورشات عن الفولكلور الغنائي الفلسطيني ما بين عامَي 1990 - 1992.
ألبوماتها هي: "الغزلان النافرة: أغانٍ فلسطينية من الوطن الأم ومن الشتات" (2006)، وفيه خُلاصة أبحاثها، حيث مزجت بشكلٍ فريد بين التراث الفلسطيني وموسيقى اﻟ"جاز". و"حفل مهرجان نور" (2016)، و"لِمَ أُحِبُّها؟" (2019)، وتناولت فيه أربع محطات رئيسية في رحلتها الموسيقية: الأغنية الكويتية، والتراث الفلسطيني، والأغنية الخاصة، وموسيقى اﻟ"جاز" واﻟ"بلوز"، و"قال المغني - طائر السحر" (2022).
من أعمالها الإذاعيّة لـ"هيئة الإذاعة البريطانية": سلسلة وثائقيّات "الأوتارُ البعيدة" عن موسيقى الشعوب المُهاجرة في بريطانيا، وبرنامج "يوم في حياة امرأة فلسطينية"، و"أغانٍ للتحرير" عن دور الموسيقى الشعبية والأغاني السياسية في مصر بدءًا من ثورة 1919 وانتهاءً بثورة يناير 2011، وبرنامج "كوكب المُوسيقا" عن تاريخ المُوسيقا الفلسطينيّة قبل عام 1948 عبر تقديم تسجيلاتٍ قديمة وميدانيّة تعود لبدايات القرن العشرين.