تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "يُحزنني أن ينأى الجمهور بنفسه عن المسائل النظرية، وهو ما يؤثّر على عطاء الباحث"، يقول الاقتصادي التونسي في لقائه مع "العربي الجديد".
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
- تشغلني الانعكاسات الاقتصادية والسياسية والفكرية لجائحة كوفيد 19، والتي جاءت لتؤكّد فشل الإنسانية في التحكم في الطبيعة وفي الأمراض، ولتذكّر بهشاشة الوضع الإنساني والعجز أمام الجوائح والمخاطر الكبرى. كل هذا ينبغي أن يدفع للتفكير في الخروج من الأنماط الفكرية والسياسية والتنموية المتّبعة. هذا بشكل عام. وهناك أيضاً المشاغل المباشرة التي تخص واقع المنطقة العربية، وأساساً الصعوبات التي تعرفها تجربة التحوّل الديمقراطي في بلدان "الربيع العربي".
نحن نعيش نهاية مرحلة في التجربة العربية السياسية وبداية مرحلة جديدة، وهذا المخاض ترافقه صعوبات كبيرة وتحديات كبيرة تحوّلت في بعض الأحيان، كما في ليبيا وسورية واليمن، إلى حروب مدمرة، وهذا ما يثير قلقي وحيرتي، وإن كانت حيرة مشحونة بالكثير من الأمل، أمل الخروج من النمط السياسي الذي هيمن على المنطقة العربية منذ استقلال بلدانها.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟
- آخر إصدار لي كان بعنوان "ديمقراطية اجتماعية أو ثورة محافظة: تونس بعد 2019" (منشورات نيرفانا)، الذي أتى نتيجة متابعة الانتخابات التونسية وقراءة في سوسيولوجيا تحوّلات ما بعد الثورة، وهو يُقدّم قراءة في الأزمات التي تعيشها أهم العائلات السياسية في تونس. أمّا الإصدارات القادمة، فهناك مجموعة من المشاريع أشتغل عليها، أبرزها دراسة حول مستقبل العولمة والديمقراطية في ظل الجائحة، وكتاب اقتصادي يتناول عجز النيوليبيرالية، وقد وضعت له عنواناً أوّلياً "ما بعد النيوليبرالية ومحاولات أُخرى". أمّا عن سبب اشتغالي على مشروعين أو ثلاثة في الوقت نفسه، فيعود إلى سبب بسيط، هو أنني في بعض الأحيان قد أصل إلى طريق مسدود في مشروع فأنتقل إلى آخر ريثما تتّضح الرؤية في المشروع الأول.
نعيش نهاية مرحلة في التجربة العربية السياسية وبداية أُخرى
■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟
- هناك بعض الرضا؛ حيث أصدرت أكثر من أربعين كتاباً باللغتين العربية والفرنسية. صحيح أن المشاغل الاقتصادية مهيمنة على مؤلفاتي، ولكن هناك العديد من الكتب الفكرية والسياسية، والتي أثارت اهتمام القرّاء في تونس وخارجها، وهو ما يمنحني بعض الرضا، لكن لا ينبغي أن نغفل أنّ من يتفاعل مع الكتب الفكرية هم شريحة صغيرة وليس الجمهور العريض الذي ينأى عن المسائل الفكرية والنظرية، وهو ما يؤثّر على الباحث والمفكّر، لأن تجاوُب الناس واهتمامهم بما يكتبه يدفعه إلى المزيد من الكتابة.
■ لو قيض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
- ساختار هذا المسار نفسه، أي التوجّه إلى الاقتصاد السياسي، لكن بمنظور منفتح أكثر على العلوم الاجتماعية الأُخرى والتفطن مبكّراً إلى ضرورة عدم الانحباس في الاقتصاد كتخصّص، وهو ما أقوم به اليوم، حيث طوّرت الكثير من المعرفة حول التاريخ والعلوم السياسية والثقافة بشكل واسع، كالأدب والشعر والسينما.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- التغيير الذي أنتظره، أو بالأحرى أسعى إليه، هو الخروج من الوضعية التي نعيشها اليوم؛ حيث يطغى علينا الخوف من المستقبل، ويطغى علينا غياب الرؤية وعدم الوضوح. أساهم بكتاباتي، أي بالطريقة المحدودة التي أستطيع، في فتح آفاق جديدة للقارئ. أودّ أيضاً أن تتوطّد قيم التآزر الاجتماعي والتآخي داخل المجتمعات، وبين البلدان والشعوب وأن يكون ذلك عنوان المرحلة الاجتماعية الجديدة.
■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- أودّ محاورة ابن رشد. أعتبره مفكراً أساسياً جاء في فترة مفصلية من التاريخ العربي الإسلامي؛ فترة شهد فيها مجتمعه تراجع مبادئ الحرية وقيمة الحرص على العلم. أنا ممّن يعتقدون بأن ابن رشد لو انتصرت تصوّراته حول علاقة الدين والدولة وعلاقة الدين بالعلم لمكّن هذا الانتصار العرب والمسلمين من تجاوز مرحلة التراجع التي وصلتها الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس وربما أتاح ذلك زمناً أطول من التطوّر. لكن للأسف انهزم ابن رشد بين أهله وانتصر في الغرب فكان أحد المفاتيح لإنارة طريقهم نحو ثورة فكرية وحضارية مكّنتهم من الخروج من جاهليتهم التي عرفوها في القرون الوسطى، ليقودوا العالم بداية من القرن الثامن عشر.
لو انتصر فكر ابن رشد لتجاوز العرب حالة التراجع مبكّراً
■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
- كثيرة هي الكتب التي أعود إليها، لعل من أبرزها أعمال الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في نقد الحداثة؛ حيث يحدّد هذا المفهوم الفلسفي وتطوّره والقطيعة الإبستمولوجية التي أحدثتها في إعمال العقل والتفكير والعلم ودوره في إرساء الحريات والتعدد في المجتمعات البشرية، لكنه في الوقت نفسه يعود كذلك بالنقد إلى الانحرافات التي عرفتها الحداثة، والتي بموجبها شهدت سطوة العلم ومحاولته الهيمنة والسيطرة على الطبيعة وتراجع الفكر النقدي.
■ ماذا تقرأ الآن؟
- قراءاتي متعدّدة؛ أمامي الآن روايتان تونسيّتان: "نازلة دار الأكابر" لأميرة غنيم وأجدها رواية هامة، و"الإسفنحة" للأزهر الزناد، وكلاهما صدر مؤخراً. أما بخصوص الكتابات الفكرية، فأقرأ آخر أعمال عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، وكذلك أقرأ للباحث التونسي حمادي الرديسي كتابه "ابتكار الحداثات في الإسلام". هكذا أنا، لا أقرأ كتاباً واحداً أتفرّغ له، أفتح قراءات متعدّدة فأمرّ من كتاب إلى آخر. رحلة من كتاب الى كتاب.
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- لديّ عادات صباحية تعود إلى أيام طفولتي، حين كنت أستمع إلى الإذاعة التونسية قرابة نصف ساعة صباحية، بعد القرآن تُقدَّم باقة من أغاني فيروز. صباحاتي كلّها فيروز اليوم، حتى حين شغلت منصب وزير الاقتصاد والمالية في 2014 و2015 كنت أضع أغنياتها في المكتب. أما في المساء، فأذهب في جولات أبعد؛ أستمع إلى موسيقى العالم أو من الموسيقى السيمفونية الكلاسيكية. عموماً، ذائقتي الموسيقية متنوّعة، أسمع الفن الشعبي وموسيقى الراب وموسيقى الفرق الملتزمة، مثل فرقة "البحث الموسيقي" بقابس، وأنا صديق لهذه الفرقة وصديق للعديد من الفنانين التونسين؛ مثل حمادي العجيمي والهادي قلة. كما أحبّ الموسيقى الجزائرية والفن المشرقي، وخصوصاً عبد الحليم حافظ في "قارئة الفنجان".
بطاقة
باحث اقتصادي وكاتب تونسي من مواليد 1961. درس الاقتصاد السياسي في تونس وفرنسا، وشغل مناصب في مؤسسات اقتصادية عالمية؛ خصوصاً في مجال التنمية في أفريقيا، كما شغل منصب وزير الاقتصاد والمالية في تونس بين 2014 و2015. وضع أكثر من أربعين كتاباً باللغتين العربية والفرنسية؛ من أبرزها: "بورندي: التاريخ الاقتصادي والسياسي للنزاع" (1995)، و"تونس: الإصلاح الهيكلي والصعوبات الدولية" (1999)، و"الأفكار الأحادية في الاقتصاد" (2000)، و"أفريقيا: من أجل عقد تنموي جديد" (2001)، و"الأزمة الشاملة: نظرة من الجنوب" (2002)، و"الأزمة: غرق الاقتصاديين؟" (2009، بالاشتراك)، و"تونس.. الاقتصاد السياسي للثورة" (2012)، و"يوميات وزير في المرحلة الانتقالية" (2016)، و"المستشرقون الجدد" (2016)، و"الخروج من الاستياء: مسالك لتجديد العقد الاجتماعي التونسي" (2019).