عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر كتاب "الإستطيقا وفلسفة الصورة في فينومينولوجيا هوسرل"، وهو في الأصل رسالة دكتوراه للباحثة والكاتبة التونسية وصال العش.
يبحث الكتاب في منزلة الإستطيقا (علم الجمال) في فكر الفيلسوف الذي يُعتبر مؤسّس علم الفينومينولوجيا (الظاهراتية) إدموند هوسرل، وهو بحث تعتريه بلا شك بعض العقبات المتمثّلة، أوّلاً، في قلّة النصوص التي دبّجها هوسرل في علم الجمال؛ فهو لم يُفرِد مؤلَّفاً لأسس هذا العلم ومَحاوره، كما فعل أستاذه فرانز برنتانو، عندما وضع كتاب "الخصائص الأساسية للإستطيقا"؛ وهو نقص بيبليوغرافي أضيف إليه عاملٌ صعَّب قراءة الفكر الإستطيقي في فينومينولوجياه، التي بنى أُسسها ضمن تصوّر علمي وترنسندنتالي لا تبدو فيه ملامح الإستطيقا ظاهرةً، إضافة إلى اعتماد فلسفة علم الجمال نفسها على إجراءات "الإيبوخيا" (تعليق الاعتقاد) وتطبيقها منهج الرد الفينومينولوجي على معارف الحواس والقيم المرتبطة بالموقف الطبيعي، اللذَين أديا إلى وضعٍ ملتبس للظواهر المتعلّقة بالصور الفنية داخل حقل التفكير الفينومينولوجي.
ثانياً، ما كُتب حول فكر هوسرل انشغل بفكره المعرفي دون تفكيره الإستطيقي. ثالثاً، خضوع موضوع "الإستطيقا عند هوسرل" لتقويمات سلبية من الباحثين، إمّا لقلة وضوحها وعدم انتظامها وتفرُّقها وطغيان المنطقية والعلمية عليها في كتاباته الفينومينولوجية، أو بسبب مواءمة الإستطيقا مفاهيم الفلسفة الهوسرلية القائمة على مبدأ التحييد وسلب الإدراك.
ويفترض الكتاب تقويم إستطيقا هذا الفيلسوف الظاهراتي ضمن تصوّره فلسفة الصورة، ما يتطلب التفكير في أنماط الأفكار الإستطيقية لديه، خصوصاً وأنه نبّه إلى ضرورة النظر إلى الإستطيقي باعتباره نمطَ ظهور مُصاحب، ثم نمطَ ظهور خاص، أي نمط ظهور صورة يعكس اهتماماً في شكل نمط ظهور إستطيقي، ولهذا يتجه الكتاب بداية إلى التفكير في معنى نمط "الصورة - الوعي"، باعتباره نمطَ ظهور، ثم سلوكاً إستطيقيّاً وإحساسَ متعة.
ما كُتب حول فكر هوسرل انشغل بفكره المعرفي دون تفكيره الإستطيقي
تناول الفصل الأول المنطلق الإشكالي والمنهجي لتبلور المباحث الإستطيقية في أعمال هوسرل، متوقّفاً عند أهم نصوصه التي تناولت مسألة الصورة وعلاقتها بنظرياته الجديدة حول أنماط تقوّم الوعي عامة، والوعي الإستطيقي خاصة. كما اهتمَّ الكتاب بإشكالات تطرحها نصوص هوسرل حول فلسفة فينومينولوجية خاصة بالصورة والإستطيقا.
أما الفصل الثاني فقد بحث إشكالية العلاقة بين الموقف الإستطيقي والمنهج الفينومينولوجي والتباعد والتقاطع بينهما، فيُظهر أنَّ التباعد ناجمٌ عن الاختلاف بين مشروع الفلسفة العلمية الذي وضّحه هوسرل بعناية في مباحث منطقية وأفكار موجهة 1، ومشروع الإستطيقا الذي لا بدّ من فرصٍ لتبلوره في ضوء ملاحظات هوسرل حول أهمية الخيال والتماثل بين منهجَي تحصيل المعارف وتحصيل الفنون والجمال، وهو ما وجّه الاهتمام إلى نقد فرضيات إدراج الفينومينولوجيا ضمن مسعى ميتافيزيقي.
ويستعرض الفصل الثالث دواعي الربط بين مبحثَي الصورة والإستطيقا بالعودة إلى مفهومَي "الإستطيقا" و"الأثر الفني"، ثم إلى صيغ هوسرل حول استشكالات فهم الصورة وعلاقته بالإدراك، التي بقدر ما تُنبِّه إلى إخفاقات التفكير التقليدي حول علاقة الصورة بالشيء وسوء تقدير الصورة إذا رُدَّت إلى إدراك حسي، ترسم فينومينولوجيا الصورة ضمن فضاء إستطيقي بامتياز. وضمن حركة الفينومينولوجيا مفاهيم تيسّر قراءتنا لهذا الربط الذي يغدو حضوراً، والمستحضر موضوع - صورة، كما في البورتريه.
ووضَّح الفصل الرابع أهمية النقد الفينومينولوجي التصوّرَ الإمبيريقي للصورة كما في نظريات هيوم ولوك، وذلك لإثبات تهافت نظرية الصورة التقليدية وتأكيد البعد النقدي لفينومينولوجيا الصورة. لم يكن هذا النقد غائباً في قراءة هوسرل فلسفة برنتانو، فقد بيَّن فساد الخلفيات السيكولوجية للصورة، وهي المهمة التي أنجزها الفصل الخامس من الكتاب المعنون "المباحث النفسانية وفينومينولوجيا الصورة"، وفيه مناقشة نقدية لمعنى حدسية الصورة.
أما الفصل السادس، فقد خُصص لمناقشة التصوّر المثالي، وهو يتّخذ من القصدية منهجاً ومبدأً لتجاوز الرؤية الميتافيزيقية حول الصورة. ويستند التحليل القصدي للصورة إلى أطروحة هوسرل المعلنة في مرحلة أفكار موجهة 1 حول علاقة الوعي بالعالم الخارجي؛ وهي علاقة لا يمكن حلّها خارج الحدس بل فيه، أو بالانطلاق منه، ذلك أنَّ كل حدس فاعل في معناه القصدي لا يمكن أن يعبّر عن إمكانيته باعتباره فعلاً، أو أن يتسع كيانه إلّا بما يحتويه في فعل الإدراك، وبه تتعين كونيّته وكونية الموضوع المرئي باعتباره وجوداً.
وعرضَ الفصل السابع قدرات الوعي الخيالي باعتباره فعلاً، وميَّز بين القدرة على التخيّل والإدراك، وأوضح معنى صدور الإبداع عن التخيّل لا عن الإدراك أو الواقع، بهدف استجلاء شروط تقوّم الوعي المُتخيِّل وتتبُّع تحقّقه الذي يمكن أن يكون وظيفيّاً وفاعلاً. وقد بيّن الفصل الأسباب التي تجعل ميزة الوعي الإستطيقي الحقيقية متحدّدة بالصورة.
وبحثَ الفصلُ الثامن في ظاهرتَي التمثّل والاستحضار، وبيَّن اتِّسامَ الاستحضار بوصفه خاصيةً للوعي المُتخيّل بالحرية والحياد، وبعدم الإحالة إلى وقائع محدّدة بل إلى تداعيات وصور حرة هي أساس الإبداع. قد تقفز في الروح خصوصيات تكوِّن الصورة استحضاراً للإدراك وللمُتخيّل، وليس للمرئي فحسب، فما يميّز الاستحضار من التمثّل هو عدم قيامه على تكرار الشيء المُستحضَر. تعبّر تجربة الاستحضار عن فعل تموّضع مغاير تنبّه مارك ريشير إلى الارتباط الوثيق بينها وبين فعل التموضع؛ إذ إن الأولى تحوِّل الفنتازيا إلى صور موضوعات قصدية لا تحدَّد بالواقع بل بتموضع أشياء يعبّر عن إبداع صورة عن طريق فعل الاستحضار وتمثيلها فيزيائيّاً، وتلك هي الحركة الحرة لتمثّل الفنان.
وخُصّص الفصل التاسع لتحليل ظاهرة حياد الصورة واستشكالات الموقف الإستطيقي في الفينومينولوجيا، بتحليل رأي هوسرل في حيادية الصورة ومناقشة مقاربة فرانسواز داستور لِما يسمّيه هوسرل "تغيير المحايدة"، وهو اشتغال الخيال في تحويل المحايدة إلى وعي مُتخيّل، فالمحايدة فعل يُنتِج في التغيير والتحوير قصدياته وإستطيقاه، فكيف يمكن الجمع بين القول بحيادية الفعل والإستطيقا؟
ويعتبر الفصل العاشر الفنتازيا فضاءً خاصّاً لتكوّن الإبداع الفني، وحركةَ الإبداع حركةً حرة تتأسّس في الذات ويتّسم فعلها بالتكوّن في إطار صور مختلفة ضمن أفق زمني لامحدود. وتكمن وظيفة التخيّل في تحرير الحواس وتقوية الدلالة الإبداعية بواسطة فعل يستحضر عبر تغييب ما يوجد هنا (في الواقع) والآن (في الزمان الفيزيائي).
واهتمّ الفصل الحادي عشر بتحديد طبيعة القراءة الفينومينولوجية للأثر الفني، وبتحليل "مقوّمات" قراءة الإبداع الفني فينومينولوجيّاً، على أساس استبعاد الثنائيات التقليدية حول الصورة، باعتبارها فرضيات مسبقة، ووصف المعطى في الأثر للوصول به إلى لحظة الحياد التي يكون فيها ذاته: أثراً فنيّاً لا مجرد فعل واقعي. ومنها ما يتعلّق بالبحث في الصلات المُلتبسة بين الأثر والإدراك، إذ لا يتكوّن تلقّي الأثر إلّا في إطار نمط من التفاعل القصدي بين الإبداع والآخر، بين فعل محايد وإدراك يماثله، ولا يشتغل إلّا ضمن دائرة "الحيادية".
ويناقش الفصل الثاني عشر مفارقات إستطيقا الأثر الفني في الفينومينولوجيا، ويحلّل بعض التباسات تلك الإستطيقا المتعلّقة بطرافة المنهج وخصوصيته، إذ إن النظر إلى الفينومينولوجيا باعتبارها منهجاً إستطيقيّاً يحتاج إلى تدقيق خصوصية علاقة المنهج بالمذهب، وتدقيق مدى اختلاف المنهج عن المقاربات الميتافيزيقية الكبرى للفن والتجربة الإستطيقية، والتدقيق في إمكان الحديث عن إستطيقا فينومينولوجية وعمّا يميّز منهجها من تفسيرات النقد الكانطي والديالكتيك الهيغلي وحدس شوبنهاور التأملي وروحية برغسون وتعبيرية كروتشه.