منذ بدء العدوان على قطاع غزّة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، يتعمّد المُستعمر الصهيوني ممارسة كُل أشكال الإبادة الجماعية بحق السّكان. فالهجمات الجوية والبرية والبحرية لم تستهدف الإنسان بصفته المجرّدة، بل استهدفته من نواحٍ أُخرى تتعلّق بالهوية الجمعية والثقافية، في عملية مُمنهجة للتطهير العرقي ومحاولة التخلّص من الآثار المادية التي تربطه بالمكان، بدءاً من الماضي ورموزه وصولًا إلى الحاضر ومعانيه المتعددة.
وعلى الرغم من تقديس الإنسان وأهمية إعلاءِ صوتُ الدماء على أيّ أصواتٍ أخرى، إلّا أنه لا يُمكن تجاهل عملية المَحو المَكاني والثقافي المقصودة التي يتم القيام بها، والتي لا تؤثّر على الواقع المُعاش اليوم فحسب، بل تُشكّل نواة المستقبل وتوجهاته. لذلك، عندما نذكر أنَّ عدد الشهداء تجاوز 22 ألف شهيدٍ، وعدد المُصابين تجاوز 57 ألف مصاب، يجب أن نذكر أيضاً أنّ 70% من منازل غزّة تضررت -جزئيّاً أو كليّاً- بعد قرابة ثلاثين ألف قنبلة وصاروخ على القطاع، وأنّ 72% من الخدمات البلدية كالمكتبات والحدائق دُمّرت، بالإضافة إلى 77% من المرافق الصحية وغيرها الكثير.
في تعريفه لمصطلح "الإبادة الجماعية" الذي صاغه للمرّة الأولى عام 1944، لا يحدّد الباحث القانوني البولندي رفائيل ليمكين الإبادة بالتدمير الكامل لأُمّة ما، بل يشير إلى أنّها "مخططٌ مُنسّق من أفعال مختلفة تستهدف تدمير قواعد الحياة الأساسية لمجموعة قومية بهدف محقها". ما يعني أنَّ الإبادة الجماعية مصطلحٌ لا يُشار به فقط إلى الدماء السائلة، بل يُشار به أيضاً إلى التاريخ والمكان والجغرافيا والثقافة والماضي، التي يتعمّد المُستعمر تدميرها لمحو الذاكرة الجمعية للأفراد بما تشمله من مُكونات مُختلفة.
بالعودة إلى ما يقوم به المُستعمر الصهيوني حالياً في قطاع غزّة، نَجد أنّه يستخدم جميع أشكال الإبادة الجماعية، فهو لا يكتفي بقتل الإنسان، بل يذهب أبعد من ذلك باستهداف الأماكن على اختلاف وظائفها ومعانيها في الذاكرة الجمعية، التي يعرّفها الباحث والمؤرخ الفلسطيني عصام سخنيني بأنها "الوعاء الذي تحتفظ فيه الجماعة الإنسانية أو الأمّة بذكرياتها عن ماضيها، وتستحضر من خلاله سجلّها التاريخي، كما أنّها هي التي تُعطي هذه الجماعة القوة التي تستخدمها لتصوّر نفسها كما كانت في ماضيها".
يشير مصطلح الإبادة الجماعية إلى التاريخ والمكان والثقافة
وعند النظر إلى ما حدث بعد مرور ثلاثة أشهر على العدوان، نَجد أنّ الاحتلال قصف مستشفيات كما حدث في "المعمداني"، و"الشفاء"، و"الإندونيسي"، ودمّر مكتبات ومراكز ثقافية مثل "مركز رشاد الشوا الثقافي" ومكتبة "ديانا تماري صباغ"، وشوّه ميادين عامة وأماكن تمثّل رمزاً معنوياً وماديًا للغزّيين كميناء غزّة، وجرّف مقابر وطُرقات مثلما فعلَ في مقبرة الشهداء بحيّ التفاح وشارع الرشيد على امتداد الجزء الشمالي للقطاع ومقبرة الفلوجة وغيرها.
ويُمكن تعريف الإبادة الثقافية بالقول بأنّها "الأفعال والتدابير المتّخذة لتدمير ثقافة الأمم أو المجموعات العرقية من خلال التدمير الروحي والقومي والثقافي". وبالنظر إلى ما يحدث في فلسطين منذ حوالي مائة عام، نجد هذه الإبادة متجسّدة تماماً في الواقع، فقد تقصّد المُستعمر الصهيوني أن يُبيد المُجتمع ثقافياً منذ اللحظة الأولى وخلال مراحل زمنية مُختلفة.
وعند التركيز على ما يَحدث في قطاع غزّة في العدوان الجاري الآن، لا يُمكن أن نُغفل عملية الإبادة هذه، والتي يمكن القول إنّها ليست جديدة على الإطلاق، فقد تعمّد المُستعمر إنهاك المُجتمع الغزّي ثقافياً منذ عقد ونصف، وكان ذلك بأساليب وأشكال مُختلفة بَدت جليّة وأكثر شراسة منذ بداية العدوان.
ولعل ما فعله المُستعمر هو أنه جعلَ الإبادة الثقافية في قطاع غزّة مرئية، بعد أن كانت مُستترة لسنواتٍ طويلة وتتمُّ بوسائل يُمكن وصفها بالناعمة مجازًا، وتمثّلت في الحصار الثقافي الذي شكّل حاجزًا أمام تنقّل الأفراد وإمكانية التعرّف إلى التجارب الأخرى والاختلاط بالثقافات الأخرى، بالإضافة إلى قصف بعض المراكز الثقافية والمكتبات كما حدث في عام 2018 عندما دُمِّرَت مؤسسة "المسحال" الثقافية.
وقد أدّى ذلك كلّه إلى خسارات متنوّعة وتسبّب في تعطيل الحركة الثقافية المحدودة أصلاً، كما أنّه دفع الكثير من الكوادر الثقافيّة والأكاديمية إلى الهجرة. وفي الوقت الحالي، أصبحَ الأمر أكثر وضوحاً من خلال الاستهداف المباشر للمراكز والمكتبات والرموز الثقافية بمختلف مكوناتها، حتّى وإن كانت مجرّد لوحة فنيّة على جدار، أو نصبا تذكاريا في ميدان عام.
من جهة أخرى، تسبّبت سياسة الإبادة الجماعية في استشهاد عددٍ كبير من الكُتّاب والمثقفين والمبدعين والعاملين في المجال الثقافي، ومنهم روائيّون وشعراء وفنانون تشكيليّون وموسيقيّون، فقد وصل عدد الشهداء العاملين في قطاع الثقافة بفلسطين خلال العام الماضي إلى قرابة خمسين شهيداً، كان الجزء الأكبر منهم في قطاع غزّة، خلال العدوان الحالي.
هذه الإبادة المُمنهجة للطبقة المثقّفة في القطاع، أدّت إلى فقدان شخصيات أدبية كان لها دور بارز في إثراء المشهد الثقافي الفلسطيني عموماً، والغزّي خصوصاً، ومن أبرزهم الأكاديمي والشاعر رفعت العرعير، والشاعر سليم النفار، والروائية هبة أبو ندى والفنانة إيناس محمد السقا.
كما تركّز الاستهداف على العديد من المثقّفين الشباب الذين كانوا يمتلكون أحلاماً كُبرى، وفاعلين بشكل جاد في المشهد الثقافي مثل: عمر أبو شاويش، محمد سامي قريقع، ويوسف دواس، في الوقت الذي اعتقلت فيه قوات الاستعمار العديد من الفنانين والمبدعين أثناء تهجيرهم من شمال القطاع إلى جنوبه، وما زال مصيرهم مجهولًا إلى الآن.
لعلَّ تدمير عدد كبير من المباني الأثريّة والتاريخيّة والثقافية في قطاع غزّة خلال العدوان، يجعلنا نقول إنَّ الإبادة الثقافية التي يتبعها الاستعمار الصهيوني في القطاع، ترتبط ارتباطًا وثيقاً بالإبادة المكانية، لا سيّما مع القيمة المادية والثقافيّة الكبيرة التي تشكّلها المنشآت التي تمَّ تدميرها، والتي منحت المدينة لعقودٍ طويلة هويةً تاريخيّةً وثقافيّة فريدة، وأصبحت رمزاً في الذاكرة الجمعية للغزيين.
الإبادة الجماعية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإبادة المكانية
تمثّلت هذه الإبادة المكانية والثقافية، في تدمير جميع النُصب التذكارية الموجودة في الميادين العامة على امتداد شارع الرشيد، بدءاً من مفترق السودانية في الشمال وحتّى وادي غزّة في الوسطى، بالإضافة إلى نصب "الجندي المجهول" في حيّ الرمال، وتمثال العنقاء بميدان فلسطين، وصرح الشهداء الستة في مخيم جباليا. وتمثّلت أيضاً في تدمير مبنى الأرشيف المركزي التابع لبلدية غزّة، ما تسبّب في إعدام آلاف الوثائق التاريخية والثقافيّة والعمرانية الخاصّة بالمدينة، وغيرها الكثير من المباني في البلدة القديمة بمدينة غزّة.
كما طاولت الإبادة الثقافية والمكانية في قطاع غزّة، تدمير 26 مركزاً ثقافياً، وتسع دور نشر ومكتبات، إضافة إلى آلاف المكتبات الخاصة، والكثير مما يصعب إحصاؤه الآن من الأماكن والرموز الثقافية الأخرى، لتطبق قوات الاستعمار الصهيوني بهذه الاستهدافات نموذجاً جديداً من الإبادة بحق الشعبي الفلسطيني تستهدف الماضي والحاضر والمُستقبل.
على الرغم من استخدام المُستعمر لجميع أشكال الإبادة بحق الشعب الفلسطيني على مدى عقود طويلة، إلا أنه فشل دائماً في اقتلاع فكرة البلاد من أصحابها، فقد كانوا دائمًا قادرين على صناعة الحياة من رحم الموت، فالوطن في هذه البلاد يكمن في الحكاية، يُروى ويصبح اعتقادًا ومذهبًا كلما ارتفع صوت الإبادة. وكما قال الشهيد رفعت العراعير: "إذا كان لزاماً أن أموت، يجب أن تعيش أنتَ، لتحكي قصّتي، إذا كان لزاماً أن أموت، ليجلب موتي الأمل، وليكن حكاية تُروى".
* كاتب فلسطيني من غزّة مقيم في إسطنبول