في عام 1961 صدر في فرنسا كتاب روجيه غارودي "واقعية بلا ضفاف". وقد جاء تتويجاً نقدياً بعد موجة التخلّص من الستالينية في السياسة، ومن تجلّياتها الأكثر شراسة في الأدب والفن، في ما عُرف بالجدانوفية. في هذا الكتاب اختتم غاردوي دراسته لفنّ وأدب بيكاسو وسان جون بيرس وكافكا بالقول: "لا يوجد أبداً فنّ غير واقعي، أي لا يوجد فنّ لا يستند إلى واقع متميّز ومستقلٍّ عنه". أتصوّر أنّ الكتاب حاول أن يعقد مصالحة أدبية وفنّية في مواجهة الحرب التي ظلّت باردة على الصعيد العسكري، بين الشرق والغرب، ولكنّها كانت ملتهبة على الصعيد الأيديولوجي.
صحيح أنّ نتائج الفكرة التي قدّمها لم تظهر سريعاً، غير أنّ الزمن تكفّل بإدخال العشرات من الكتّاب الإنسانيين، الذين كانت تصنّفهم أيديولوجيا التعصّب الحزبي على أنّهم كُتّاب بورجوازيون، إلى رفوف مكتبات كانت تمنع وجودهم من قبل: كافكا وبروست وجويس وفوكنر. لقد كان انتصاراً للواقعية، بل أحد انتصاراتها على نفسها قبل أيّ منظور آخر، فقد تمكّن الكتّاب من تحرير الواقعية كموقف ونظرية من أسْر الجمود العقائدي الذي كان يَسِمُ المراحل التي سبقت صدوره، ووسّعوا من قدرتها على تفهّم العالم أدبياً وفنياً.
واللافت أن يكتب المقدّمة شاعر ماركسي متشدّد هو لويس أراغون، الذي بدا شديد الحماسة لكتاب غارودي، على الرغم من أنّه كان ما يزال يعتبر أنّ الصراع الأيديولوجي سيظلّ مُستعِراً.
تُفتعل في ثقافتنا معاركُ أدبية فات أوانُها منذ عقد أو عقود
هذا صحيح بالطبع؛ لن تتنازل الأيديولوجيات في العالم عن مواقعها أبداً، ولكنّه قال: "لقد تصوّرنا أنّ عالم كافكا نتاج خيال سقيم، فإذا به يصبح مطابقاً للواقع التاريخي". ثم قال: "إنّ الرفض الحاسم لكلّ ما ليس 'واقعياً' في مفهوم العقائدية يؤدّي إلى تشويه الواقعية".
غير أنّ كتاب غارودي لم يُترجَم إلى العربية حتى عام 1968، وفي المدّة الفاصلة بين تاريخ صدوره وتاريخ ترجمته، ظلّت تدور في الثقافة العربية تلك المعارك التي سمّاها جابر عصفور في ما بعد بالجعجعة بلا طحن: هل الأدب للأدب أم الأدب في خدمة الشعب؟ كان طرفا النزاع بعيدين عن الدنيا الحيّة بحسب تعبير الناقد، التي تركت كليهما "محلّك سِرْ".
هذا محزن بالطبع، ففي العادة تُدان تلك الثقافة التي تنفصل عن واقعها، فكيف إذا كانت تفتعل معاركَ أدبية فات أوانُها منذ أكثر من عقد من الزمن، عدا عن كونها غير صحيحة؟ والمشكلة في تلك المعارك الخُلَّبية أنّها كانت تحرم الجمهور القارئ من الانفتاح على العالم، أو تزجّه في حمّى حروب صغيرة تستهدف كتّاباً وفنّانين عبّروا عن الواقع بطريقة مختلفة عن الطريقة المقرّرة في الكتاب الأيديولوجي.
لم يُطبع كتاب غارودي مرّة ثانية في العربية، غير أنّني أظنّ أنّه استطاع أن يجعل القراءة بلا ضفاف حين حرّرها من وِصاية الأيديولوجيا من جهة، كما تمكّن من كسر تعليمات المنع الخَفيّة على العشرات من الكتّاب العرب والأجانب الذين كانوا شبه مبعدين من سجلّات القراءة لدى جمهور عريض من القرّاء العرب، من جهة ثانية.
* روائي من سورية