هيرتا مولر في حفلة الأكاذيب الصهيونية

08 يونيو 2024
هيرتا مولر في برلين، 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2009 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- هيرتا مولر، الحاصلة على جائزة نوبل، تناولت في كلمتها بمنتدى "السابع من أكتوبر" التجاوب العالمي مع أحداث السابع من أكتوبر وموجة معاداة السامية، مقارنةً فقدان إسرائيل للشعبية بالمجتمع الألماني في عهد النازية وتعتبره جزءاً من استراتيجية حماس.
- استخدمت مولر عبارة "لا أستطيع تخيُّل العالَم من دون إسرائيل" للتعبير عن دعم أوروبي كامل لوجود دولة يهودية، متهمةً حماس بإثارة "فوضى مفاهيمية" وتقليب دور الضحية والمجرم.
- تنتقد الكاتبة الأسباب الحقيقية وراء النظرة المتغيرة تجاه إسرائيل، مركزةً على تحريض ضد المسلمين وتقديم ادعاءات غير مدعومة بأدلة، وتنتقد التضامن العالمي مع فلسطين، معتبرةً طلاب الجامعات "ضحايا لمقاطع تيك توك".

قبل أيام، نشرت صحيفة فراكنفورتر ألغماينه كلمةً للكاتبة الألمانية هيرتا مولر، الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 2009، ألقتها في الخامس والعشرين من أيار/ مايو الماضي خلال منتدىً بعنوان "السابع من أكتوبر"، أُقيم في استوكهولم بسبب "التجاوُب العالمي الصادم مع حدث السابع من أكتوبر، وموجة معاداة السامية التي تبعته"، حسب زعم منظّميه، وذلك في محاولة لـ"فهم" التغيُّر المفاجئ والمدوّي في الرأي العام العالمي تُجاه كيان الاحتلال الإسرائيلي.

دُعيت مولر (1953) إلى المنتدى لتطرح وجهات نظر لعلّها تُفيد الحاضرين في فهم أسباب موجة الغضب الهادرة في وجه الاحتلال، إلّا أنّها تبدو، مثلهم، غير قادرة (أو غير راغبة) على فهم هذه المعادلة؛ فهي تُدرك أنّ "إسرائيل" فقدت الشعبية وتأييد الرأي العالمي، وتُشبّه ذلك بما حدث للمجتمع الألماني في أثناء الحُكم النازي، غير أنّها تُفسّر ذلك بمغالطاتٍ مفادُها أنّ هذا التحوّل ليس سوى جزءٍ من "استراتيجية عالمية" تتبعها "حماس"، وتُسيطر من خلالها على الأفكار والمشاعر في العالم!

تنتمي الكاتبة إلى الأقلّية الألمانية في رومانيا، حيث لا يزال عددٌ كبير من الألمان يعيشون في مدن طابعُها ألماني. التحق والدُها، وهو في السابعة عشرة من عمره، بالجناح العسكري للحزب النازي "إس إس" الذي أصبح جزءاً من الجيش الرسمي بعد صعود النازية إلى سُدّة الحكم في ألمانيا، وقد استخدم والدها خبراته في سلاح المدرّعات ليعمل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سائقاً للشاحنات الثقيلة، بينما كانت والدتُها لا تزال معتقلةً في معسكرات عمل سوفييتية في أوكرانيا، أجبر ستالين مواطنين ألماناً على العمل فيها بعد هزيمة بلادهم في الحرب.

عباراتٌ وتشبيهات تتضمّن تحريضاً مباشراً على كلّ المسلمين

ربما بسبب هذه الخلفية التاريخية المعقَّدة، اختارت مولر عبارة باول سيلان "لا أستطيع تخيُّل العالَم من دون إسرائيل" عنواناً لكلمتها؛ فغالبية الكتّاب والمفكّرين الألمان فضّلوا، وعلى مدى عقود طويلة، تفادي مراجعة تاريخهم الشخصي والعائلي والعام مع اليهود واليهودية، ورأوا أنّ وجود دولة يهودية تحظى بالدعم الأوروبي الكامل وغير المشروط هو الحلّ النهائي لهذا التاريخ.

وعلى هذا الأساس، تزعم الكاتبةُ أنّ ما يحصل الآن من انقلاب عالمي ضدّ "إسرائيل" سببُه محاولة "حماس" ومؤيّديها "إثارةَ فوضى مفاهيمية"؛ حيث تدّعي أنّ هؤلاء "يزعمون أنّ إحياء ذكرى الهولوكوست ليس سوى سلاح ثقافي لإضفاء الشرعية لمشروع الغرب الأبيض الاستعماري- إسرائيل"، لتُضيف أنّ هذه المقولة - التي تنسبها إلى "حماس" - "تقلب دور الضحية والمجرم"، و"تجعل من إسرائيل نموذجاً استعمارياً، بعد أن كانت الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".

تقتبس هيرتا مولر مقولةً للكاتب الألماني توماس مان إنّ "النازية جعلت العالَم لا يطيق كلّ ما هو ألمانيّ"، لتُسقطها على ما يحدث اليوم من انقلاب في الرأي العام العالمي ضدّ "إسرائيل" بالقول إنّ "استراتيجية حماس اليوم هي أن تجعل كلَّ ما هو إسرائيلي - وبالتالي كلّ هو ما يهودي – أمراً لا يُطاق"، وهو كلامٌ يتضمّن مغالطة مفضوحة جدّاً؛ إذ ما يجعل كلَّ ما هو إسرائيليٌّ منبوذاً هو "إسرائيل" نفسُها التي تُشبّهها الكاتبةُ (من دون وعي منها) بالنازية.

فإذا كان ما جعل الألمان مكروهين في أثناء الحرب العالمية الثانية هو النظام الألماني الحاكم وآلته الحربية التي أرادت السيطرة على أوروبا، وزعمَت أنّ الألمان عنصرٌ بشري نقيّ ومتفوّق، وأيضاً انخراط غالبية الألمان في الدعاية النازية أو السكوت عنها، فإنّ انقلاب الرأي العام على "إسرائيل" سببُه جرائم الإبادة - التي يرتكبها قادة الكيان وتؤيّدها غالبية الإسرائيليّين - بحقّ الفلسطينيّين على مرأى العالم ومسمعه.

تتجاهل أنّ ما يجعل الإسرائيليّ منبوذاً هو "إسرائيل" نفسُها

احتفت صحف ألمانية معادية للإسلام ومحرّضة على اللاجئين بكلمة/ مقال مولر. ومن بينها "صحيفة بيلد" التي كتبت إنّ "على كلّ الألمان قراءته"، مضيفةً أنّ المقال يمثّل "نداء إيقاظ" ردّاً على "الجنون الذي استبدّ بأجزاء كبيرة من المجتمعات الغربية".

تلقّفت الصحيفة عبارات افتتحت بها الكاتبة كلمتها، وتضمّنت اتّهامات للمدنيّين في غزّة بالمشاركة الفعالية في هجوم السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر والاحتفاء به، مضيفةً أنّ هذه الفرحة بالهجوم امتدّت حتى برلين، حيث "رقص الفلسطينيون فرحاً ووزّعوا الحلوى"، في إشارة إلى توزيع حلوى في "شارع العرب" بحيّ نوي كولن البرليني، والتي تناولها الإعلام الألماني بكثير من التضخيم ولا يزال يُردّدها بشكل شبه يومي.

لم تبخل الكاتبة على هذه الصحيفة وغيرها من العنصريّين بعبارات وتشبيهات تتضمّن تحريضاً مباشراً على كلّ المسلمين، فبدل أن تبحث حقّاً في السبب الذي جعل العالم كلّه ينقلب على "إسرائيل"، راحت تورد اقتباسات بالجملة من دون مصادر، وعبارات تدّعي أنها متداوَلةٌ بين الفلسطينيّين وحلفائهم وبالأخصّ إيران. ولأنّها تعرف أنّ قرّاءها سيأخذون كلامها باعتباره حقيقة ثابتة، لم تبذل مجهوداً لتمحيص أو تدليل.

لا تتحدّث مولر عن الإسرائيليين إلا بوصفهم يهوداً، ولا ترى دافعاً للاعتراض على سياسات الكيان الإسرائيلي وإجرامه إلّا "كراهية اليهود والرغبة في إنهائهم"، والتي يلعب الإسلام، وفق زعمها، دوراً أساسياً فيها؛ إذ إنّ "الهوّة العقدية بين السنة والشيعة يجرى تجاوُزها حين يتعلّق الأمر بكراهية اليهود. جنون الحرب يعلو فوق كل شيء".

أمّا جرائم الإبادة الإسرائيلية في غزّة، فلا تكتفي مولر بتحميل مسؤوليتها لهجوم 7 أكتوبر، بل لا ترى فيها جرائم من الأساس. إنّها، في نظرها، مجرّد "خطوات طبيعية موجَّهة لتدمير دولة كارهي اليهود" العميقة، المكوَّنة من شعب شريك في الجرائم"؛ إذ "لا يستطيع المرء في غزّة التفريق بين العسكري والمدني. وهذا لا ينطبق على المباني فحسب، بل على العاملين داخلها أيضاً". وهنا تُردّد الكاتبة أكاذيب الاحتلال بأنّ عمال المنظّمات العالمية متعاونون مع "حماس" أو أعضاء فيها، وأنّ "إسرائيل" دخلت الحرب مجبرة، وأنّ هذا كان فخّاً من "حماس"، لتستدرك بعبارة شديدة الغرابة: "إسرائيل لم تقع في الفخّ، بل أُجبرت على دخوله".

وأمّا الصور الصادمة لمئات الآلاف من الضحايا في غزّة، فهي، حسب تعبيرها، تصل إلى العالم "بإخراج حماس": "رؤية البؤس بشكل يومي تُشعرنا بالإرباك، وحماس تتحكّم في اختيار الصور الخارجة من غزّة، وهي بهذا تتحكّم في مشاعرنا. المشاعر اليوم هي السلاح الأقوى ضدّ إسرائيل".

تقول ذلك بينما كانت تقتبس حكايات من كتاب "رجال عاديون" للكاتب كريستوفر براونينغ، ترى فيها توصيفاً لما حدث يوم 7 أكتوبر، وتزعم أنّها لا تتوقّف عن التفكير بهذا الكتاب منذ ذلك اليوم، بينما هو في الحقيقة يسرد قصصاً وحوادث هي طبق الأصل عمّا نراه اليوم من جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزّة؛ حيث يورد الكاتب حكايات مدنيين ألمان لم يقبلهم النازيون جنوداً، فتطوّعوا للمشاركة في إبادة كلّ من هو ألماني في المناطق التي يسيطرون عليها.

يذكر الكاتب مثلاً قصّة متطوّعٍ يحتفل بزواجه فوق قرى يهودية مدمَّرة حتى اتّسخ فستان زوجته الأبيض بدماء الضحايا، وذلك يشبه الصور والفيديوهات التي نشرها جنود الاحتلال الإسرائيلي وهُم يتقدّمون بطلبات زواج أو يحتفلون بأعياد ميلاد أثناء استراحتهم من قتل الفلسطينيّين في غزّة.

وهنا ترتكب الكاتبة مجدَّداً مغالطةً منطقية وهي تُقيم مقارباتها التاريخية التي تمنح فيها "إسرائيل" دور "اليهودي الضحيّة"، فكما قلبت عبارة توماس مان، قلبت قصص كريستوفر براونينغ رأساً على عقب، لتجعل من "إسرائيل"، التي ترتكب كلّ هذه الجرائم، ضحيةً، لمجرّد أن الضحايا الذين يروي الكتاب حكاياتهم من اليهود.

وبعد هذا الكلام المشحون بالعداء والمغالطات، تنتقل الكاتبة لتتحدّث عن ظاهرة التضامن العالمي مع فلسطين، وخصوصاً لدى الطلّاب المتظاهرين في الجامعات الغربية". وكأنّها تريد إخفاء شيء ما، لا تتحدّث مولر عن وجود هذه الظاهرة في ألمانيا، بل تقتصر على الحديث عمّا يحدث في الجامعات الأميركية.

تُذكّر مولر قرّاءها بأنّها عاشت ثلاثين سنة تحت الديكتاتورية في رومانيا الشيوعية. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ شائعات كثيرة سرت، وقتها، عن أنّها كانت تتجسّس لصالح النظام، بحُكم عملها في الترجمة وإتقانها اللغتين الألمانية والرومانية، وهي التهم التي نفتها في كثير من كتبها، قائلةً إنّ المخابرات الرومانية ضغطت عليها مرّات عديدة لتعمل لصالحها، لكنّها رفضت ذلك رفضاً قاطعاً، وهو ما عرّضها للمضايقات، وفق قولها.

انطلاقاً من هذه التجربة، تُنظّر للكاتبة للفرق بين العيش تحت الديمقراطية والديكتاتورية؛ قائلةً إنّ الأُولى تعني قدرة الفرد على التفكير والاختيار الحرّ لما يؤيّده ويراه صحيحاً، وعدم الخوف من رفع صوته بتأييد ما يشاء أو التنديد بما يشاء، على عكس الديكتاتورية التي يصبح فيها الفرد الحرّ والمفكِّر معادياً للمجموع وخطيراً على المجتمع.

لكنّ هذا التنظير لا ينطبق، في عقل مولر، على الطلّاب الذي يُخيّمون ويتظاهرون دعماً للشعب الفلسطينيين وتنديداً بجرائم الاحتلال؛ فهُم "فقدوا القدرة على التمييز بين ما هو ديمقراطي وما هو ديكتاتوري"، لأنّهم يتظاهرون دعماً لـ"مجتمع ديكتاتوري لا يؤمن بحقوق المثليّين"، مستدلّةً، هنا، بإحصائية من دون مصدر تزعم أنّ 99% من الفلسطينيّين يرون أنّ المثلية ظاهرة غير أخلاقية.

أمّا عن دوافع هؤلاء الطلاب وما يحرّكهم، فهي ترى أنّهم "ضحايا لمقاطع تيك توك"، وتتساءل إن كان شباب هذه الأيام يملؤون رؤوسهم بشيء غير تيك توك؟ (هل من المصادفة أن تذكر الموقع الصيني ولا تذكر مواقع أميركية؟). وهنا تضيف أنّ مصطلحات "فولور" و"إنفلونسر" و"ناشط" ليست سوى تمظهرات حديثة للتابعية والعمالة والنشاط السياسي، كما كانت منتشرةً في ظلّ الحكومات الشيوعية أو الفاشية، مدّعية بذلك أنّ هؤلاء الشباب ضحايا لعملية غسيل دماغ ممنهجة تقودها "حماس".

تحدّثت الكاتبة السبعينية في قاعة يتّفق كلّ من فيها مع ما تطرحه من دون نقاش ولا مراجعة، تتحدّث عن الشباب لا إليهم، تقتبس من كتّاب آخرين من دون إثبات لصحّة المقاربة ولا منطقية الاستدلال، ثم تنشر كلمتها لتحتفي بها صحف معروفة بأجنداتها وخطابها المعادي للعرب والمسلمين، تعيد تدوير لغتها العنصرية وتنميطها الفجّ، بينما يُمنع الشباب من اتخاذ طريق مغاير وتشكيل زمن أكثر إنسانيةً وتضامناً عالمياً.

المساهمون