"نيرو" للأخوين مامّوكاري: قصصٌ مصوَّرة تستلهم التراث العربي

25 يونيو 2024
بدأ الأخوان مامّوكاري بجمع مادّتهما قبل 14 سنة
+ الخط -
اظهر الملخص
- في ذروة الأحداث بغزة، أصدر الأخوان مامّوكاري الجزء السادس من "نيرو" ضمن "آوداتشي"، تحكي قصصاً خلال الحروب الصليبية مع إشارات للأحداث المعاصرة، معكسةً تأثيرها الثقافي في إيطاليا.
- تستكشف السلسلة مغامرات "نيرو" ضد الصليبيين، مبرزةً الديناميكيات المعقدة والتحالفات غير المتوقعة، وتعتمد على التراث العربي لتأثيث عوالمها بطريقة فريدة.
- تنهل السلسلة من مصادر ثقافية ودينية متنوعة لتقدم رؤية معقدة للصراعات التاريخية والمعاصرة، مؤكدة على أهمية التراث في فهم الصراعات الحالية وإمكانية السلام عبر التفاهم والتحالفات الجديدة.

في ذروة العدوان الإسرائيلي المستمرّ على غزّة، صدر في نهاية آذار/ مارس الماضي الجزء السادس من سلسلة الشريط المصوَّر "نيرو" للأخويَن إيميليانو وماتيو مامّوكاري عن دار "سيرجيو بونيللي" في ميلانو تحت عنوان "جهاد". تدخل السلسلة، التي يقع كلُّ جزء منها في ثمانين صفحة ملوّنة من القطع الكبير، ضمن مجموعة "آوداتشي" (مِقدام)، ذات الطباعة الفاخرة والموجَّهة للكبار.

يتصدّر الشريط المصوّر قائمة أعلى الإصدارات مبيعاً في المكتبات الإيطالية، ما يجعل إيطاليا من بين أكبر أسواق "الكوميكس" في العالم وأسرعها نموّاً، بعدد قرّاء يتجاوز عشرة ملايين قارئ، بحسب إحصائيات عام 2022؛ أي ما نسبته 23 بالمئة من عدد السكّان البالغة أعمارهم بين 15 و74 سنة.

وكان الجزء الأوّل من مغامرات المقاتل العربي "نيرو" (الأدهم)، قد أُطلق في كانون الأوّل/ ديسمبر 2021 تحت عنوان "كذلك على الأرض"، وتلته أجزاء: "كُوّرت الشمس، وانكدرت النجوم" (آذار/ مارس 2022)، و"ثقوب في الماء" (كانون الأوّل/ ديسمبر 2022)، و"من وساوس وخُنّس" (مارس 2023)، و"مدينة الألف جنّة" (ديسمبر 2023)، وآخرها "جهاد".

وعلى الرغم من أنّ السلسلة الخيالية، التي بدأ الأخوان مامّوكاري بجمع مادّتها قبل 14 سنة، تدور أحداثها بالكامل خلال حقبة الحروب الصليبية، إلّا أنّ الفنّانَين لا ينفيان الإسقاطات السياسية المُعاصرة لعملهما؛ حيث نقرأ في مقدّمة الجزء الأوّل من السلسلة: "على الرغم من الألف سنة التي تفصلنا عن الحملات الصليبية، إلّا أنّ أصداء تلك الحروب لا تزال تتشابك مع نشرات الأخبار إلى اليوم".

حروبٌ لا تزال أصداؤها تتشابك مع نشرات الأخبار إلى اليوم

ويؤكّد الفنّانان، في الجزء الصادر مؤخّراً، على راهنية السلسلة ضمن محور "إشراقات - نظرة على عالم نيرو"، التي ختمت أحداث الجزء الأخير: "على حين غرّة، اختُزل الزمان والمكان. ولم تعُد أخبار الحرب الرهيبة والهجمات والزلازل التي لا تنفكّ تصل من الشرق الأوسط، مجرَّد أصداء لواقع غريب، بل قصص أماكن مألوفة وقريبة على نحو غير متوقّع".

شَبه اليوم بالبارحة وانجدالُ حكاية نيرو الصغرى بحكاية التاريخ الكبرى ترجمها الفنّانان الإيطاليان ضمن الخطاب الانسيابي للشخصيات ابتداءً من الجزء الأوّل. وإذ نرى "الغريب"، وهو مقاتل في جيش الصليبيّين يصل إلى سورية الكبرى - حيث تدور مغامرات الأجزاء الستّة الأُولى من السلسلة - من أجل بلوغ جبل قاسيون وتحرير الجنّ الذي يسكن "مغارة الدم" التي ارتُكبت فيها أوّل جريمة قتل في التاريخ: "أنتم تكرهون بعضكم بعضاً، وهذا ما يجعلكم ضعفاء"، لم يكُن المقاتل المسيحي يسعى، من خلال رحلته، سوى لمقابلة ذلك الجنّي، مُحاولاً إيجاد مَخرج لتهريب "نيرو" من بين الصليبيّين بعد أن أنقذه من الموت في ميدان المعركة حتى يدلّه على مكان المغارة.

"فلنذهب عبر مسلك الجبال"، قال نيرو مقترحاً طريقاً بعيداً عن جيش الصليبيّين. "وذلك حتى أقع رأساً بين أيدي أصحابك!". "ولمَ لا؟ الكثيرون منّا يختارون التحالُف مع الفرنجة من أجل التفوّق على أشقّائهم"، يرد نيرو. "ولكن على الأقلّ نحن المسيحيون متّحدون"، يقول الغريب. "أم أنّكم جيّدون بالتظاهر بذلك!"، بهذه الجملة يقرأ نيرو العربي نوايا المقاتل الصليبي الذي يعود إلى جيشه رفقة نيرو متظاهراً بالفعل أنّه سيحمل أسيره لمبادلته ذَهباً لدى المسلمين، بينما كان يُضمر في نفسه مخطَّطاً آخر يرجو فيه مصلحة خاصّة ستتكشّف دوافعها ضمن بقية الأجزاء ومعها هويته الحقيقية.

على الجانب الآخر، يصفُ الأخوان مامّوكاري الحالة العربية المتردّية بعد سرد فظائع أقدمَ عليها الصليبيون قبل أن يصلوا إلى تلّ بشير، حيث يسأل القاضي قائد جيشه: "هل وصلت أخبار من دمشق؟"، راجياً بذلك وصول النجدة من أشقّائه بعد أن علم أنّ الصليبيّين على بُعد يوم من أسوار مدينته: "لن يساعدونا لا هُم ولا الآخرون. البعض تَمترس وراءه حصونه... بل وقام البعض الآخر بإرسال هدايا للكفّار من أجل استرضائهم". "حسنا نعرف ماذا يقول المثل!"، يردّ القاضي - وهو عم "نيرو" - بحسرة: "اليد التي لا تستطيع قطعها، قبّلها وادعُ عليها بالكسر". والواقع أنّ القاضي ليس بحال أفضل من حال بقية القادة الذين كان يرجو دعمهم، وهو من انكبّ على السهر والسكر بينما كان جيش الصليبيّين يستعدّ للانقضاض على مدينته.

قصصُ أماكن مألوفة وقريبة على نحو غير متوقّع

وشخصية القاضي في السلسلة مستوحاة من فخر الملك بن عمّار، آخر قضاة طرابلس الغرب قبل سقوطها بين أيدي الصليبيّين، وقد حكم بين (1099 ـ 1109)، كما أتى في تنويه الأخوين مامّوكاري ضمن المحور الختامي للجزء، والذي عادةً ما يُقفل على قوس معرفي، وعاد هنا الفنّانان إلى الصراع الذي كان قائماً بين قاضي طرابلس ودقاق بن تتش؛ حيث يوكّد مامّوكاري على أنّ تغلغل الجيوش الصليبية في المنطقة العربية لم يكن ليحصل لولا تسهيل المسلمين لها بسبب نزاعات داخلية ونكايات بين زعمائهم.

في الجزء الثالث، تنتقل المغامرة من طرابلس إلى صُور. وفي هذا الجزء يبدأ الموروث السحري للمنطقة بالظهور ومعه شخصية تاجر خبير بالعلوم الباطنية ويعمل في بيع الأثريات والمخطوطات النادرة، وهنا يدرك المسلمون والجيش الصليبي أنّهم دخلوا حرباً مع مردة من الجنّ.

وتَظهر في الجزء الرابع، "من وساوس وخُنّس"، ملامح تحالف بين المسلمين وجيش الصليبيّين لم يكن تحقيقه يسيراً: "لقد جئتُ إلى هنا من أجل تحرير الأرض المقدَّسة لا من أجل التحالف مع كفّار ملاعين"، يقول رونو قائد جيش الفرنجة، وتردّ نزارية، إحدى الشخصيات المحورية في العمل وأكفأ جنرالات جيش القاضي: "الجنّ لا يعبأون بعقيدة من يقتلون. إذا لم نضع عداواتنا جانباً، ستنتصر الشياطين لا محالة". وفي هذا الجزء يعود مامّوكاري ضمن محور "إشراقات" إلى أصل إبليس وقصّة الخلق ومعها استعداء إبليس لكلّ البشر وتوعّده بالوسوسة لهم وتضليلهم إلى يوم الدين.

وينهل الأخوان مامّوكاري باقتدار من التراث اللغوي والديني والسحري للعالم العربي من أجل تأثيث عوالم "نيرو"، على نحو قلّ نظيره في الإبداعات العربية المعاصرة التي جعلتها إغراءاتُ "الحداثة" و"العقلنة" تقطع الجسور مع روافد إلهام هامّة من إرثها الثقافي. رافد لم يغفل الفنّانان من التأكيد على أهمّيته في الخطاب الفنّي لعالمنا اليوم "حيث يبدو أنّ السبيل العقلاني الوحيد لتحقيق السلام هو تسليم أنفسنا إلى عوالم أُخرى".

وبعد استعارتهما في العنونة لمفردات من القرآن والإنجيل وسفر حزقيال، نجدهما في الجزء الأخير يستلهمان من ابن جبير والقدّيس بولس وصف دمشق التي تدور أحداث الجزء الخامس فيها: "مدينة الألف جنّة". وفي هذا الجزء، يكشف حاكم دمشق لزوّاره سرّاً عمره قرون لمدينته الخصبة، الأقرب لمغارة الجنّ. وفي هذا الجزء يتفجّر أيضاً صراع شخصي بين نيرو ورونو (قائد الفرنجة) على خلفية بوادر علاقة لهذا الأخير مع نزارية: "أنا تقومين بصدّي كأنني وحش. أمّا هو فيعجبكِ؟ أحد الغزاة الملاعين الذين نحاربهم معاً منذ سنين"، يخاطب نيرو نزارية بغضب. "هو على الأقلّ يؤمن بشيء"، تردّ نزارية، كاشفة عن ملمح هامّ في شخصية نيرو، الفارغ روحيّاً، بسبب علاقة إشكالية مع والده تعود إلى طفولته وتُشكّل المحرّك الأساسي لكلّ أحداث العمل، وتُبرّر العلامة الغامضة التي يحملها نيرو على جبينه. وفي هذا الجزء الحافل ينكشف أيضاً سرّ نزارية "السفّاحة" وأصولها الطائفية المثيرة.

وبالرغم من أنّ التحرّك بين شخصيات مركّبة ذات خلفيات طائفية متعدّدة قد يبدو أشبه بالتنقّل بين حقل ألغام، إلّا أنّ ذلك لم يدفع الأخوَين مامّوكاري إلى فخ الوقوع في خطابات "الصوابية السياسية"، بل نجدهما، في الجزء الرابع، يبلغان ذروة البراعة في التحايل على "القواعد" التي أصبح يمتثل لها بصمت السوادُ الأعظم من الكتّاب والفنّانين في السنوات الأخيرة، حيث استسلمت الكثير من الأجناس الفنّية والأدبية، على غرار الشعر والرواية، لشطحات الأيديولوجيا التي قوّضت تعبيرها الفنّي. والواقع أنّ الفنّ التاسع يخضع لقوانين درامية صارمة في الكتابة ورسم الشخصيات لا تسمح بالمزايدة على الفنّ باسم الأيديولوجيا.

وهكذا نجد الأخوَين مامّوكاري يُوظّفان بذكاء كلّ المواد المتفجّرة التي تُشكّل تفاصيل عملهما على نحو يخدم الحبكة، مضاعفَين معها في كلّ جزء جرعات التشويق، ومسجّلَين انعطافات درامية بلغت أوجها في الجزء الأخير "جهاد" الذي خاض فيه جيش الصليبيّين المعركة المنتظرة مع الجنّ جنباً إلى جنب مع المسلمين في مغارة الدم، انتهت بخروج المغامرة، بعد ستّة أجزاء، من بلاد الشام لتحطّ في الموسم الثاني ـ المنتظر في نهاية السنة الحالية ـ بسمرقند، لكن ليس قبل أن يثبّت الفنّانان في أذهان قرّائهما أنّ الجهاد ليس تلك المفرَدة سيّئة السمعة في اللغات الأوروبية كما أرادها الإعلام على مدى سنوات، وإنّما ببساطةٍ هو قتال الإنسان للشياطين: "الجهاد الأصغر يُعنى بقتال الشياطين المحيطة بنا، وأمّا الجهاد الأكبر فهو قتال الشياطين التي تسكن داخلنا"، مذكّرين القارئ بأنّ معركة الداخل أشدّ شراسة وبأساً، وفيها لا ينفع السيف وإنما الإرادة فحسب.

وبهذه الكلمات، يختم الأخوان مامّوكاري الموسم الأوّل من "نيرو" ـ الذي لا يزال يصارع شياطينه ـ داعيان القارئ الإيطالي إلى عدم تصديق الأكاذيب حول الجهاد في عالم "كسول ومخادع"، بل يحثّانه على المشاركة فيه بأقصى طاقته. يقول الفنّانان: "جاهِد أنت أيضاً لأنّ هذا العالم مليء بالشياطين".


* روائية ومترجمة جزائرية مقيمة في إيطاليا

المساهمون