نعرف وننتظر ونكظم

07 يناير 2024
فلسطينيون ينظرون إلى ما تبقّى من عمارتهم بعد أن مدرتها غارة إسرائيليلة، 3 يناير (Getty)
+ الخط -

في حيّ الرمال، الذي كان أغنى أحياء القطاع، جرت هذه القصّة: وضع جيش الشرّ كيس طحين زنة 25 كيلو، فوق رمل الشارع الذي كان أسفلتاً، واختبأ في البيوت المدمّرة، وسط كمّ هائل من الأنقاض، منتظراً وقوع الفريسة في الفخّ.

هو يعرف حال من بقي من سكّان الحيّ، بعد نحو ثمانين يوماً من القتل والتدمير والحصار والجوع (كثيرون ماتوا جوعاً، في غزّة وشمال القطاع، وهُم محاصرون في بيوتهم، معرّضون للإعدام بدم بارد، فورَ أن تأتي منهم أيّة حركة).

خرج أوّل جائع يعيل عائلة، وعندما وصل إلى الكيس، ولمسه، كمن يلمس كنزاً، أعدموه. ثم تكرّرت القصّة مع 18 من سكّان الحيّ. أنا واثق من أنّهم كانوا يعرفون أو على الأقل رأوا مصير من سبقهم، ومع هذا تقدّموا نحو الكيس، علّ وعسى. واثق من أنّ مَن فعلوا هذا أرباب أُسَر على شفا الموت جوعاً. فالجوع، كما قيل بحقّ، أبو الكفّار.

ومع معرفتنا بحقارة عدوّنا وخسّته ووضاعته وانحطاطه، من جميع النواحي، إلّا أنّ القصة ضربت في صميمنا. ومع معرفتنا أنّ قاتل الأطفال، وقاطع الأكسجين عن الخدّج، ودافن الشباب أحياءً تحت ردم دباباته، لا يتورّع عن أي فعل مشابه، إلّا أنّ القصّة عزّزت لدينا الحدّ الأقصى من كراهيتهم. يا شراذم الأمم، ويا جبناء العصور، نكّلت بكم المقاومة الباسلة، فانتقمتم من المدنيين. نعرف أنكم أهل الشرّ، ونعرف أنّ المستقبل، مهما طال، لنا وحدنا على هذه البلاد، فاحشة الجرح، وفاحشة الجمال، معاً.

نعرف ما لا تعرفون: لا يأتي بأفعال الشرّ المبتذل، إلّا المهزوم والمجروحة نرجسيته: إلّا مالئ رأسه بخرافة التميّز عن البشر. نعرف، وننتظر، ونكظم.
 

* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون