نص اللاجئ (6): ما من علامة تقود إليهم

19 نوفمبر 2022
طفل كويتي في أحد المنازل المتضرّرة بفعل الاجتياح العراقي مطلع التسعينيات (Getty)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "نصّ اللاجئ"، والتي لم تُنشَر في كتاب، وهي من أهم أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول/ سبتمبر 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


أحدُ اللّاجئين وفي سنواته الأخيرة، كان قد بلغ من العُمر عِتياً، سألناه عابثين عن مُستقبل الأيام، وعمّا سيحدُث لهذا العالم وكيف يراه الآن، فتحسّر لأنه لا يملك كتاب أبي معشر الفلكي، وقال لو كان لديه هذا الكتاب لأخبرنا بما سيحدث. وأبو معشر هذا، فلكيٌّ من العصر العباسي لديه كتاب "الألوف"، وكتاب في قراءة الطالع هو المعروف باسمه.

إلّا أن هذا اللاجئ لم ينس أن يُضيف ملحوظةً عن العصر الجديد القادم، عصر الصاروخ أو"السروخ" بلهجته القروية،  المُخيف والمُدمِّر. وتحدّث عن هذا "السروخ" بلهجةِ من يَرى فيه نذُر القيامة، ولم يمضِ على هذا الحديث من الزمن إلّا أقلّه، حتى كانت الأيدي تحمل هذا اللاجئ من سكان "التوراة" إلى مثواه الأخير، في مكانٍ كنا نجهلُه في تلك اللحظة، وحتى هذه اللحظة، نحن لا قبورَ لنا، فلم نكن نعرف أين يُدفن اللاجئ. ولو لم أشاهد قبرَ أخي وقبرَ أبي في ما بعد، لظللتُ على اعتقادي أن ثمة ملائكة تحمل اللاجئين وتذهب بهم إلى حيث لا ندري.
 
في أيام معسكر الاعتقال البريطاني المهجور، كانت المدافنُ تقع خارج المعسكر على مرتفَع، وأعتقدُ أنّ الرمال طمرتها الآن بكل شواهدها الكلسيّة. هناك اختفى إخوة وآباءٌ وأخواتٌ، ولم تعد هناك علامة تقود إليهم، شأنهم في ذلك شأن قتلى الأتراك الذين تناثروا حول معسكر"الشعيبة" في الحرب العالمية الأولى ودفنوا هناك. 

ولا أعتقد أن حال من ظلّ من الأحياء يختلف، فالعلامات التي تقود إليهم ما لبثت أن انطمست أيضاً. ولن تحتفظ إلّا ذاكرتي بأخي الصغير المولود في البصرة، والذي تابعتهُ خطيئة اللاجئ إلى إيطاليا، حيث أنهى دراسته الجامعية هناك في العام 1990، بالضبط في الشهر الذي غزا فيه العراقيون الكويت، فلم يجد مكاناً يرحل إليه، وأخيراً أُرسل بالقوة إلى ليبيا لينامَ في شوارع طرابلس ردحاً من الزمن، قبل أن ُيعيّن طبيباً في مستوصف "العُربان"، وتختفي أخباره بعد ذلك؛ وتنطمس. فيقال إنه مرض فجأةً ومات، ويقال إنه شارك في اجتماع سياسي تمّت تصفيةُ كلّ من حضره رمياً بالرصاص. ولا أدري سوى أن علامة موجودة لم تعُد تقود إليه.

ثمة ملائكة تحمل اللاجئين وتذهب بهم إلى حيث لا ندري

ولن تحتفظ ذاكرتي إلّا بشخص اسمه فايز، كان قد حوّلَ ساحة "التوراة" التحتية إلى مصنعٍ لأحذيةٍ عجيبة، أحذيةٍ مصنوعة بشكل كامل من مطّاط بورونيو وسومطرة، الذي حوّلته الصناعة الحديثة إلى عجلاتِ سيارات، وحوّل هذا اللاجئ ما تهرّأ منها إلى أحذيةٍ، يحزمها ويحمّلها ليبيعها في أمكنة نجهلها. ولكنه كان يمضي بها إلى الأعراب المُحيطين بالبصرة كما أظنّ، لأن آخر مشهدٍ له كان حين أتَوا به من الصحراء قتيلاً ذات يوم. وقيل يوم ذاك: إن أحد أحذيته تسبّبت مساميرُه في تسميم قدم أعرابي ثم موته، فظلّ قومُ الأعرابي يبحثون عن بائع الأحذية حتى وجدوه فقتلوه.

تلك أحداثٌ جديرة باللاجئ، أي أنّها تنسجمُ مع ما هو فيه من وضعية المغمور والمجهول، التي لا تعني شيئاً لهذا العالم الواسع، ولكن حدثاً واحداً ُيدخل تعديلاً على هذه الصورة.
 
ذات يوم عاد أبي مبكّراً من رحلته لشراء أقمشة كان يتاجر بها، وكانت عودته مفاجئة وغريبة، لأن مثل هذه الرحلة تستغرق في العادة نهاراً كاملاً. ولكن العجيب لم يكن قصر الرحلة بل سبب العودة.

سألته أمي عن سرِّ عودته خاوي الوفاض، قلقةً من أن يكون العجوز ضيَّع رأسماله في الطريق أو التقطه نشّال من جيبه، فأجاب بصوت متهدّج: "أما سمعتِ الأخبار؟ العالم سينتهي في أي لحظة، ستقوم الحرب الذرّية، وهي حرب لن ينجو منها أحد".
 
حدث هذا خلال أزمة الصواريخ الكوبيّة التي وقف فيها العالمُ على شفا حُفرة الجحيم النووي، وكانت وكالات الأنباء تُتابع خطَّ سيرِ السفُن الروسية المتحرّكة لفكّ الحصارِ عن كوبا، وهي تقترب من الأميركية التي استنفرت ترسانتُها النووية عام 1960.

كان وجهُ الوالد مُصفرَّاً بالفعل، وصوتُه يرتعش. كان خائفاً بجدّية تامة، وبدا لي الأمرُ مُضحِكاً إلى درجة أنني سخرتُ من مخاوفه العجيبة هذه. فالعالمُ كان يبدو لي شاسعاً إلى الحدّ الذي لا يُمكن أن تصيبنا فيه شظيَّة ذرّية أو إشعاع. إلّا أنه كان واثقاً تماماً من أنّ اصطدام الروس بالأميركيين لن يُبقي ولن يذر، حين سمع أنباءَه وهو في طريقه لشراء قماشه، فعلّق مشروعه اليوميّ وعاد إلى البيت، لا أدري لماذا، أو ماذا قرّر أن يفعل غير أن يكون في بيته في لحظة الانفجار النووي.
 
سأتعلّم فيما بعد صِدقَ هذه الرؤيا، حين أكتشفُ كيف أن انفجارَ مخيّلاتٍ بعيدة عنا بضعة قرون في الماضي، سيقوّضَ وجودنا الصغير في القرن العشرين.

هل كان اللاجئ يعيش أحداثَ العالم بهذه الدرجة من الحسّاسية، بحيث يشعر أن الجحيمَ سينقضُّ عليه إذا اصطدمتِ السفـنُ الروسية بالأميركية على شواطئ كوبا؟ أعتقد أن هذا كان جزءاً من اللّامعقول الذى يعيشه هذا الفلّاح. فهو يخشى حرباً ذرّية بعيدة قد تشمل الكرة الأرضية كلّها (تحجُب الشمس وتُحدث الشتاء النووي)، ومع ذلك لم أكن أجده يعيش حياته على مستوى هذا الوعي الشامل نفسه. إنه لا يغيّر نمط حياته، ولايؤثّث مسكنه حتى، أو يعي في أي منطقة بائسة يعيش في هذا العالم. 

هـذا الفلّاح نفسه الذي أحسّ بالخطر الذري، كأي كاتبٍ غربي نموذجي، لم يتصرّف في العام 1948 بوعي يُوازيه. ففي تلك الأيام، وحين كان منهمكاً بوجوده الضئيل، وجـــود الأقزام في حبّات الجوز التي يقيمون فيها، أو يتردّد على "سجن عكا" لزيارة سجناء من أقربائه، أو يجرّه الإنكليز إلى "سجن حيفا" للتحقيق معه في أمرِ بندقية صدئة مُلقاة في أرضهِ، كان "مطارُ اللد" يعجُّ بالمسافرين من أبناء العائلات الذاهبين للدراسة في هارفارد وكامبردج. وسأظلّ أذكرُ تزامن هذه الأحداث، ففيها كان سرُّ خرابِ حياة الفلّاح الفلسطيني الذي شغلوه بحشو بندقيته العثمانية، وهم يحملون حقائبهم للسفر إلى المُستقبل، وابنه الشاب بالكاد يستطيع الوصول إلى الصف السابع، ثم يلتحق بالعمل في "محطّة قطار حيفا".

كان واثقاً تماماً من أنّ اصطدام الروس بالأميركيين لن يُبقي ولن يذر

وسيقف هذا اللاجئُ الفلّاحُ في ما بعد، وبعنادٍ، أمام فكرةٍ كانت ستغيّر مصيره ومصير أطفاله تغييراً جذرياً، حين اقترح المسؤول البريطاني في "محطة القطار"، على الشاب النشيط الذي يُجيد الإنكليزية إجادةً تامة، أن يأخذه هو وعائلته معه إلى قبرص، لأن هذا البريطاني كان يعرف أن لا أمل للفلسطيني أمام هذا الحشد المتنوّع من الذئاب التي نمَت تحت الحِراب البريطانية، وستنطلق قريباً لاقتلاعه. فوقفَ الفلّاح بعنادٍ أمام المجهول، واختارَ أن يظلَّ في إطارِ المعلوم، أي في القرية الصغيرة التي تقرّرَ مصيرها سلفاً، منذ أن كتب يهودي عجوز بيده "لنَسْلِك أُعطِي هذه الأرض"  قبل ثلاثة أو أربعة آلاف عام. 

أعتقدُ ومن دون خروج على حدود المعقول، أن ما يحدّد المصيرَ هو ما تملكه من معرفةٍ في هذه اللحظة أو تلك. وليس صحيحاً تماماً أن السلطة تنقّلت بالتدريج من القوة العسكرية إلى القوة الاقتصادية، ثم وصلت أخيراً إلى المعرفة كما يرى الأميركي المعاصر آلفن توفلر. كانت المعرفةُ هي صاحبة السلطة دائماً، منذ أن أمسك الإنسانُ بشظيةِ حجرٍ وحتى هذه اللحظة. 

سأفترض أن هذا الفلّاح لو كانت لديه معرفةٌ أوسع، أي لو كان يعرف ما يحدث في منتصف القرن العشرين تحديداً على صعيد العالم، لامتلكَ على الأقل سُلطةً على مصيره، بدلَ أن يبقى بيد المُصادفات التي قذفته شرقاً إلى حيث "يعرف"، لا غرباً إلى حيث "يجهل". 

ما كان يعرفُه حدّدتهُ شروطُ القرون العثمانية، أي أن تشرُّده كان مُعطىً مُضمَراً في سياقِ هذه المُجريات، وسيكون متأخّراً جداً هذا الوعي الذي استيقظَ فجأةً على عالمٍ شاسع مهدّد بالحرب النووية، إلى درجة أن الإنسان في ظلِّه لم يكن يستطيع فعلَ أي شئ لحماية نفسه أو تقرير مصيره، وهو مجرّد لاجئ قابع في مكان مجهول من أعماق جنوبي العراق.

هل تغيَّر الأمرُ في مصائرنا حتى هذه اللحظة؟

حين أفكّرُ بهذه الغزوة العراقية، وبخطابها الشبيه بتعاويذ السَّحَرة، وكلمات التمائم والأحجِبة التي لا مدلولَ لها في الواقع، يتراءى لي مشهدُ ذلك المدرّس البائــس زكي الأرسوزي، الـذي هبط من الإسكندرون في العشرينيات إلى دمشق، والذي لا أدري من منح تهويماته وتلاوين ذهنه لقب فلسفة، فأرى في هذا الهبوط وتهويمات ذلك الطريق سببَ هذه الكارثة التي انقضّت عليّ مع الغزو العراقي للكويت.

أن يكون في بيته لحظة الانفجار النووي، هذا ما قرّر فعله

ربما لهذا السبب تتحوّل المعرفةُ المتأخّرة إلى عبءٍ، ورغبةُ الفعل إلى رغبةٍ طائشة، تودُّ أن تنطلق مهما كان الثمن، ومهما كانت المسارب. وإنه لأمرٌ بُطولي أن يبدأ الإنسانُ كفاحه العظيم للخروجِ من هوّة اللاجئ التي ألقَوه فيها، إلى مرتفَع الإنسان الذي تحتشد فيه الكائنات.

بطولةُ هذا الكفاح الذي سيحمل معه شتى المُفارقات، ستتجلّى مُبكّراً في هذه الدعوة ذات المعنى: أن يمسك الفلسطيني بزمامِ قضيّته. فالأحزاب العربية والحكومات لم تقدّم له شيئاً، و"إسرائيل" ستمتلك  بعد عشر سنواتٍ قنبلتَها النووية، ولن يبقى أمامنا من أمل كما خطب بذلك أحد زعماء الطلبة ذات يوم. وعزّزَ هذه الفكرة - وإن بشكل هزلي - عبد الكريم قاسم،الذي دعا إلى تكوين جيش تحرير فلسطيني مخطِّطاً لإحداثِ تحريرٍ مُباغت يشبه انقلابــه العسكري، ذلك الذي أصبح معياراً لكلّ تغيير، حتى لو كان رصفَ شارع. 

وأعتقد أن هذا العسكري بوقفته المُتكهربة، والذي منحه الشيوعيون لقبَ الزعيم الأوحد، لو كان بائعَ جبنٍ مثلاً، لدعا إلى المزيد من تصنيع الجبن واستهلاكه، بوصفه الطريقة الوحيدة لتغيير العالم أو تحريره. (صاحب مطعم فول في عمّان علّق تعليماتٍ مطوّلة عنوانُها كيف تقضي على "إسرائيل" بأكل الفول. ولا أدري إنْ ظلّت هذه التعليمات معلّقة حتى الآن، أم أخفاها بعد أن اكتشف ملكُه طريقة أُخرى للقضاء على أكلةِ الفول).

هكذا بدأ ينمو الشعور بأن الصراعات العربية هي"فخّارٌ يكسّر بعضه"، وهو تعبير بشّرَ بهِ زميلُنا في الجامعة محمد أبو ثلاث في تعليقه على معركةٍ بين طلَبةٍ بعثيين وشيوعيين في ساحة الكلية. وسينتهي الأمرُ بزميلنا إلى التحوّل إلى زعيمٍ في إحدى المنظّمات الفلسطينية في أواخر الستينيات، مع شعارٍ آخر كان كثيراً ما يردّدهُ على مسامعنا: "لن يحرّرها إلاّ واحدٌ يخرج من المخيم أتخمَه العدس"، وسيَلقى محمد مصرعه بعد ذلك بشكلٍ غامض في أحد شوارع عمان عام 1969. ويقال في ملصقٍ إعلاني إنه استشهد في عملية ٍفدائية، وسأرى أمّه وأخواته على صفحات صحيفة يتحدّثن عن الشهيد الذي كُنّ يجهلن أنه يقوم بعمليات فدائية، وسيقول آخرُ إن منظمته اغتاله في الشارع، وسيقول أحدُ زملائه في منظّمته بلهجةٍ ذات مغزى "لم يكن مجرّد فردٍ بل كان وراءه أحدٌ ما"، وأثارت هذه اللهجة ريبتي وشكّي في مُلصقات الشهداء التي اعتدنا على رؤيتها، وكانت تُثير فينا أحياناً رغبة بالاستشهاد أو كتابة قصيدة على الأقل.

كانت الفكرة صحيحة، ولكنّ تحذيرات الخارجية الأميركية عام 1950، من "خطر اللاجئين" الذين لابدّ من اتّقاءِ تذمُّرهم وإيجادِ وسائل لدرء انفجارهم وتوتّرهم، ما يزال يدفعُني إلى التساؤل عن نوعية الوسائل التي استُخدمت منذ ذلك التاريخ، لتصريفِ هذه الطاقة المتفجّرة أو تخريبها بالأَحرى.

صحونا على عالم ينبذُنا فوجدنا منظّماتٍ تنتشلنا من هوّةِ اللاجئ، وترفعُنا إلى ربوة الإنسان، وبإغراء أشدَّ جعل حتى العراقيين يستبدلون تعبير"إخواننا الفلسطينيين" بتعبير"اللاجئين".

منذ أن أمسك الإنسان بشظية حجر، المعرفة هي صاحبة السلطة دائماً

كانت الفكرة صحيحة؛ إنّ على اللاجئ أن يمسك بزمام قضيته. ولكنّني لا أعتقدُ أن السلالم التي بدأت تهبط فجأةً من كل الاتجاهات كانت تقود إلى ربوة الإنسان، بقدر ما كانت تقود إلى معسكرات يذهب إليها صديقٌ متحمّس "لا يهمّهُ أين يسقط ومتى ما دام سينهض بعده من يحمل السلاح". وليتحوّل هذا الصديق إلى مُلصق، وإلى غزال يمضي سريعاً في قصيدة للشاعر معين بسيسو، كتبها بمناسبة مقتله على سفوح جبل صنين، ليستحق أن يكون شاعراً للثورة، في مواجهة شاعر آخر هو محمود درويش كان قد دخل السباق للفوز بهذا اللقب. 

في تلك الأيام احتشد بشرٌ لم يعرفوا من يقودهم... وإلى أين... حتى هذه اللحظة. واحتشد كُتّابٌ وشعراء يدُورون في دائرة ضوء الزعيم السياسي، وفي ظلّهِ بعيداً عن الملموس الفلسطيني؛ أعني بعيداً عن المضمون الإنساني للتجربة الفلسطينية.

المساهمون