نصّ اللاجئ (3): حيث سارت أقدامُ السيّاب والبريكان

29 أكتوبر 2022
زوارق تنتظر الراكبين، البصرة في خمسينيات القرن الماضي (Getty)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "نصّ اللاجئ"، والتي لم تُنشَر في كتاب، وهي من أهم أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول/ سبتمبر 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


كانت البصرة في تلك الأيام مختلفةً تماماً. فهذه البصرة التي رآها ألبرتو مورافيا الإيطالي في السبعينيات "مدينةً مهترئة"، وشاهدتُها في الثمانينيات وكأنها حقلٌ أحرقته القنابل وأكل البلى شوارعها وبناياتها، وجفّفَ جزءاً من نهرها المتفرّع عن شطِّ العرب، وسحق الجفافُ وبناءُ البيوت الخاصة بحيرةَ النخيل التي كانت تُحيط بها، هذه البصرة كانت في الخمسينيات تُعتبر "ثغر العراق الباسم".

ولكن من المؤكّد أن الذي أطفأ بسمته لم يكن أحد اللاجئين، أو المهرّبين، أو الأكراد الذين جاءت بهم الحكومة الملكية منفيّين من الشمال، ووضعتهم قيدَ الإقامة الجبرية في معزلٍ كبير ذي بوابةٍ وحيدة، منذ زمن يقال إنه يرجع إلى الثلاثينيات.

كنت ألمحُ وراء بوّابة المعزل أطفالهم بلباسهم الكردي المميَّز وهم يمرحون، ورجالهم الجالسين في مقهىً داخلي أو السائرين في طُرقات هذا المعزل، ولا أذكر أنني رأيت امرأةً كرديّة. سأرى هذه المرأة في ما بعد في الجامعة؛ كانت زميلةً تهوى الرسم. وأذكرُ لوحةً لها مُعلّقة في مرسم الكلية وعليها توقيعها، وأحد الأساتذة يشير إلى اللوحة مُبدياً امتعاضه من وضع الشعارات السياسية على اللوحات؛ لم يكن هذا الأستاذ يعرف أن اسم الرسّامة كان كردستان.

الزميلة الأُخرى كانت بيضاءَ اللون إلى درجة لافتةٍ للنظر، ذات عينين سوداوين تظلّلُهما سحابةُ حُزنٍ رقيقة، وكانت نَشطة في مضمار التنظيم الطلابي. وكثيراً ما كنتُ أنتبهُ إلى أنّها ترمقني من طرفٍ خفيّ بعينيها الواسعتين، بلا سببٍ واضح بالنسبة لي على الأقل.

الكردية الثالثة صادفتها في الطائرة المُتّجهة إلى صوفيا من عمّان، مع ستة أطفال في العام 1992. كانت شبهَ أُمّية تودُّ أن تهبط في أيّ مطارٍ طلباً للجوء، وحين علمتْ أن الطائرة ستهبط في أثينا فرحت؛ إذ لم تكن تميّز بين أثينا واستوكهولم.

من شعر البريكان انطلقت أكثر حوافز ِالتجديد أصالة وأهميةً 

كانت البصرة شركة نفطٍ وتمورٍ وموانئ، وشاطئاً طويلاً على شطّ العرب يحتشد بالمقاهي والسفن. وكنتَ ترى أساتذتك يسيرون عليه متأبّطين كُتباً وملفّاتٍ أو جالسين في أحد مقاهيه، وزملاءَكَ بالطبع، والفتيات، وبضعة شعراء يعتزّون أنهم ينشرون قصائدهم في "مجلّة الآداب" البيروتية، أو "الأديب".

هذا الشارع نفسه سارت عليه أقدامُ السيّاب والبريكان زميلَي مرحلة الأربعينيات الصاخبة، وشهد أقدمَ مناقشاتِ تجديد الشعر العربي، وتردّدت بين أشجاره أسماءُ شعراء مصريين وسوريين ولبنانيين، وأسماء صُحف، وعناوين كتب، وآخر قصائد نازك الملائكة والبياتي وسعدي يوسف. ولم يكن الإنكليزي إليوت بعيداً، ولا إيديث سيتويل.

وسأعرف فيما بعد، حين زرتُ بيت محمود البريكان بدعوةٍ من أخيه عبد الله، زميلي في المدرسة الثانوية، وقرأتُ مطوّلاته: "أعماق المدينة"، و"حارس الفنار"، و"القوّة والأغلال" أن هذه المطوّلات هي التي خرج منها السياب، ومن البريكان ذلك المجدّد الكبير انطلقت أكثر حوافز التجديد أصالةً وأهمّيةً في الأربعينيات.

في بصرةِ الخمسينيات لم يرشدني أحد، وكان اللجوءُ إلى الداخل خياري. كان للممرِّ الطويل الذي سرتُ فيه بين حشدٍ من الطلبة الفضوليّين الفضل في شعوري بأنّني مُختلفٌ وفي انتظاري مهمّةٌ أعظم. ولهذا كنت لا أخشى التحدُّث بلهجتي، فيعرف العراقي أنني "لاجئ"... وليكن... وماذا بعد؟

في خِضمّ أحداث العام 1958 وانهيار المَلكيّة، تشاغل العراقيون عن "اللاجئ" وكأنه غير موجود، وإن كانت جارةٌ لنا لا تخفي دهشتها دائماً من أننا لا نُعلّق على جدارِ الغرفة الوحيدة التي كانت بيتنا صورةَ "الزعيم"، كأنّ ممّا لا يقبل النقاش أن يكون "زعيماً" لنا أيضاً، وللأكوان كلّها ربما.

نَصحَنا فلسطيني أعور يعمل شبهَ مراسلٍ في "دائرة شؤون اللاجئين" المُحيطة بشؤوننا، بأن نبتعد عن الأحزاب والانتماء إلى أي فريقٍ في هذا الصراع الذي أعقب الانقلاب العسكري. فأجابه زميلٌ متقدّم أيديولوجياً كان يردّد على أسماعنا دائماً قصيدة ميخائيل نعيمة عن العودة إلى الوطن لدفن الموتى: "وإذا لم نفعل؟"، فقال المُراسل الأعور: "البحر أمامكم والعدو وراءكم!"، فضحك زميلي وقال: "لا أرى وراءنا إلاّ جداراً، وكذلك ما أمامنا!" في إشارة إلى الزقاق الذي كان يجري فيه الجدال.

لم تكن علاقتنا بهذا المراسل ذي الأصول الغجرية ودائرته حميمة، ولم نكن نشاهد مديرها العجوز أبو عادل الجالس على مقعده منذ العصر التركي؛ شديد البياض والضآلة معاً، بغطاء رأسه (السدارة السوداء) ومعطفه الأسود، ملموماً على كرسي، ضامّاً أطرافه إلى صدره، وبيده فنجان قهوة، إلاّ لماماً. وحين كنّا نحتاج إلى أخذ شهادة "فقر حالٍ"  لنُعفى من دفع الرسوم المدرسية، أو شهادة تقدير سنّ؛ إذ لم نكن نملك شهادات ميلاد. 

حين ذاك، كنّا نختصر الطريق إليه بوساطةٍ من مساعده الضخم الأطرش، الذي يقال إنه كان جندياً في الجيش التركي أسَرَه الإنكليز وخصَوه. كنتُ أتجنّب المدير الضئيل أنا وأحد زملائي في المدرسة، لأننا لم نكن نستطيع كتمان ضحكاتنا حين نشاهده في جلسته المعتادة تلك، فكان يغضب ويأمر بصوته الرفيع بطردنا، فيأخذنا الغجري الأعور جانباً ويوبّخنا.

كنت لا أخشى التحدُّث بلهجتي، فيعرف العراقيُّ أنني "لاجئ"

هل كنا نبدأ تحرُّرنا من الإحساس بوصمة أو جريمة كوننا لاجئِين، وما الذي حدث؟
 
في خضمّ الصراع الذي اندلع بين الشيوعيين والبعثيين والقوميين، وعلى أصداء أقوال وخطابات "الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم"، الذي كان إذا خطب لا يعرف أين يتوقّف، كان الكلُّ يسير نحو المذبحة ويحشد أسلحته. أناسٌ مع الوحدة مع عبد الناصر، وأناسٌ مع الاتحاد الفيدرالي، أناسٌ يهتفون بحياة القومية العربية، وأناسٌ يهتفون بحياة عبد الكريم الغالي. والأوفر حظّاً بين هؤلاء كان الشيوعيون، إذ سرعان ما نظّموا اللجان المحلية، والمكتبات، والمؤتمرات العلنية، والمسيرات الطويلة وما أطلقوا عليها "المقاومة الشعبية"، و"أنصار السلام". 

وبدأت الحرب الأهلية داميةً بين الأحزاب في كلّ زاوية من زوايا العراق. لم تكن التوراة ولا سكّانها بمعزل عن كلّ هذا، صحيح أن عدداً من اللّاجئين عاد ظُهر الرابع عشر من تمّوز/ يوليو نصفَ عارٍ يحمل قمصانه المُبلّلة بالعَرَق بعد نهارٍ من المُظاهرات، والهتافات فرحاً بالثورة على المَلكية، إلّا أن الأمر أصبح أكثر تعقيداً بعد اشتداد الصراعات. وأذكرُ أن "اللاجئين" اختبؤوا حين أعلنت الإذاعات نبأ محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، وانطلقت الإشاعة بأنّ المغتالين فلسطينيون، كان اغتيال ملك الأردن عبد الله قد وصَم كلّ فلسطيني بأنه إمكانيةُ اغتيالٍ دائمة ومُتحرِّكة.

اللاجئون الذين رأوا في الوحدة مع جمهورية عبد الناصر ضَماناً لعودة فلسطين أصبحوا أكثر خوفاً وانكفاءً، وفضّلوا تجنّب المظاهرات والشوارع والأسواق؛ كانت وصمة "الناصري"، أو"البعثي"، أو "القومي" كافية لتجمع حولك غوغاء لا نهاية لحشدهم، بحبالهم وسكاكينهم متعطّشين لسحلِ أيّ عدوّ للثورة أو متآمر من أمثالك.
 
المشهد الذي لا ُينسى كان حصار التوراة، ومحاولات حشودٍ من الغوغاء البسطاء اقتحامها على اللاجئين، وكان السبب تافهاً إلى حدّ بالغ. فقد اتّهَمَ صبيٌّ عراقي آثوري (مسقط رأسه تل كيف في أقصى الشمال العراقي وما يحيط بها من قُرى) صبيّاً فلسطينياً بأنه بصقَ على صورة "الزعيم"، وصار الحادث سبباً لشجارٍ خرج منه الآثوري مهزوماً.

وما هي إلّا ساعة، حتى عاد وخلفه حشدٌ تدفّق وملأ الشارع المجاور لزقاقِ التوراتيّين بوجـوه نساءٍ، وعباءاتٍ وشبّان وشيوخ غاضبين يحملون مناجل وفؤوساً وحبالاً، ويصرخون بأصوات عالية متناثرة... "أين هذا الذي بصق على "الزعيم؟".

كان المشهد مثيراً لفضولي، وأعترفُ أنني لم أدرك آنذاك عمق الخطر الذي يحمله هذا المشهد، وأنا أتطلّع إلى الحشدِ من نافذة الطابق الثاني حيث نقيم. وأبعدني أحدهم عن النافذة حين بدأ الحشدُ يتطلّع إلى أعلى، فلم أجد ما أفعله سوى أن أعدّ كوباً من الشاي، ولكن حتى هذا الكوب لم أحظَ به، إذ رأيت أبي يهتاج فجأةً وينقضُّ عليَّ وينتزع الكوب ويرميه أرضاً وهو يصرخ "أهذا وقت شرب الشاي؟". 

لم أفهم ما الخطأ في شرب كوب شاي، ولازمني عدم الفهم هذا حتى في أحرج اللحظات، ومنها تلك اللحظة التي اشتبك فيها الشيوعيون ذات يوم مع البعثيين في "نادي الكلّية" متنافسين على إقامةِ حفلٍ بمناسبة ذكرى فلسطينية ما، كان شعار البعثيين آنذاك "فلسطين عربية فلتسقط الشيوعية"، بينما حافظ الشيوعيون على شعار "وطن حر وشعب سعيد". وتراكض الطلبة هاربين، فأخذتُ كوبي بهدوء وانتحيتُ جانباً، ووقفتُ على طرف المشرب أحتسيه بصمت، وأنا أراقب الكراسي وهي تتطاير، والمكانس تتحطّم، والأبواب تصطفق و"الثوريين" يحاول بعضهم طردَ بعض من النادي ركلاً وصفعاً.

لا أظنُّ أنّ كوب شاي سيفشل مشروع الوحدة العظيمة

كلّما وجدتُ نفسي بلا شيءٍ أفعله كنتُ أفكّرُ بكوب شاي، وذات يوم قُدتُ تمرّداً بسبب هذه العادة. كان الطلبة الأردنيّون والفلسطينيّون والبحرينيّون والعراقيّون، وطلبة من جنسيات أُخرى، قد اقتحموا السفارة الأردنية غداة إعلان ميثاق الوحدة الثلاثية عام 1963، ورفعوا على سطحها العَلَم الأردني بعد أن ألصقُوا عليه ثلاثة نجوم، فأصبح يحمل أربعة، وصرخوا مطالبين بانضمام الأردن إلى الاتحاد الثلاثي أو الوحدة الثلاثية. ومدّوا على جدار السفارة الخارجي لافتةً كبيرة كتبوا عليها عزمهم على الاعتصام، والإضراب عن الطعام حتى تتحقّق الوحدة! وما إن انتهوا من اتخاذ هذه الإجراءات حتى وجدوا أنفسهم بلا شيء يفعلونه، فاختاروا أن يرقصوا الدبكة فوق سطح السفارة، بينما يُدلي قادتُهم بتصريحات لمندوب التلفزيون العراقي.
 
ولأنني لم أكن من هُواة الرقص ولا التصريحات، فقد فكرتُ بكوب شاي، وفتّشتُ عن المطبخ حتى وجدته، وهناك أعددتُ كُوباً ساخناً ووقفتُ أحتسيه، فلاحظني بعض الطلبة، وتوافدوا واحداً بعد الآخر، وكلٌّ يتناول كوبَ شاي أو كاكاو أو ما يتيسّر، حتى خَلت ردهاتُ السفارة من المعتصمين. وجاء أحد "الزعماء" يستطلع جليّة الأمر، فوجَدنا نحتفلُ احتفالنا الخاص، فغضب قائلاً إننا نُفشل الاعتصام والإضراب عن الطعام... وربّما الوحدة بهذا الفعل... فاعتللتُ بأن الأمر لا يتجاوز كوب شاي، لا أظنُّه سيفشل مشروع الوحدة العظيمة سواء أكانت ثلاثية أم رباعية.

إذن تحت النوافذ مباشرةً كان الشارعُ يضجُّ ببشرٍ ناقمين، يتهيَّؤون لجرِّ أو سحلِ أو ذبح  كلّ متآمرٍ أو متطاول على "الزعيم".

ولأنني لم أتخيّل نفسي أحد هذين الاثنين فقد كنتُ مطمئناً. وزاد اطمئناني حين بدأت التوراةُ تعجُّ بمختلف الرتب العسكرية: شرطة، ومقاومة شعبية، وجيش، والكلُّ يبحث عن الصبي الذي بصق على صورة "الزعيم". قال أحد الضباط وهو يزيح جانباً عباءةً سوداء مُعلّقة على الحائط ظنّاً منه أن الصبي مختبئ وراءها: "والله ما أحد يحرّرها غيرنا" وكان يقصد فلسطين بالطبع.

لم يجدوا الصبيَّ ولكنهم وجدوا أخاه الأعرج فاعتقلوه، وكاد التجمُّع المنتظَرُ في الخارج أن يتناوله لولا أن قال أحدهم "لا، ليس هو، هذا أخوه"، فتوقّف الهياج. وسلّم الصبيُّ نفسه في ما بعد ليضمن سلامته بعيداً عن الشعب المتحمّس للدفاع عن شرف زعيمه الذي أهانته بصقةٌ على صورته بتمزيق الصبي قطعــةً قطعة.

هذه البصرة العباسية التي شاهدها الروائي الإيطالي مورافيا "مُهترئة"، ورأيتها في الثمانينيات خربةً، ما زال يشقُّها نهرٌ متفرّع عن شطّ العرب تقطعه بضعة جسور خشبية هنا وهناك. وأذكرُ، حين أكون في طريقي إلى المدرسة الثانوية أسير بمحاذاة هذا النهر، أنني كنت أجدُ الشارعَ يضيق فجأةً بسبب زاوية مبنى تخترقه، وتكاد تصل إلى حافة النهر لولا متر هنا أو متر ونصف هناك، فيضطرُّ السائرُ إلى الانصياع لأمرِ هذه الزاوية والمرور بحذرٍ بين حافة النهر والمبنى، قبل أن يتّسع الشارع مجدّداً. لم أنسَ هذه الزاوية، وحرصتُ عدة مرّات على البحث عنها في كلّ مرّة أزور فيها البصرة، والعجيب أنني كنت أجدها في مكانها ذاك دائما.

وآخر مرّة كانت في كانون الأوّل/ ديسمبر عام 1990، حين كان العراق يحتلُّ الكويت، وتنقل شاحناته أفرادَ الجيش الشعبي الذين كانوا يُلتقطون من الشوارع ويُرسَلون إلى الجبهة مباشرة. كانت الزاوية ما تزال في مكانها ذاك، تُعيق المرور رغم أن المبنى بأكمله لم يكن إلاّ أطلالاً.

المساهمون