كُنّا نائمين، نومَ الكائنات التي نومُها موت مؤقّت، وهذا تعبيرٌ أوشكَ أن يصير حقيقة أبديّة كالموت؛ ونحن نهتز في الأسرّة، ونصحو جزعين، نرقَب انهيارَ السقف والجدران علينا. لكن لم يسكنّا الموت السوري حدّاً كان يمكن أن يدفعنا إلى البقاء في السرير في انتظار الموت. لا نزال أحياء، ولا يزال جسدنا بصفتهِ مادة، ينتفض طلباً للنجاة. ولا يستغرق المرء لحظة واحدة كي ينهض، كي يهرب بنفسهِ من فوق السرير إلى تحته. فالسرير الذي حمل موته المؤقّت لربما يحميهِ من انزياحٍ في المادة لا اللغة، انزياح يجعل من نومهِ أبديّاً، وهذا جرّبته قبل الآن.
لكن هذه المرّة لم أنزل تحت السرير، بل حملتُ طفلي النائم إلى جانبي، وركضتُ بهِ إلى العمود الأساسي في البيت، وبقي نائماً وهو في حضني. لكن مع اشتداد حركة الجدران، مع وعيي بأنّ الأرض تميدُ بنا. أخذت بِلا وعي أضغط على ابني إلى أن استيقظ بسببي، لا بسبب الزلزال. وكان مغموراً بجسدي بقدر ما استطعت، كي أحميه، أو هذا ما فكّرت به. وشاغلي الوحيد أن أحميه. وفي حال وقع البناء أن يكون مغموراً بجسدي، لستُ وحدي من فكّر على هذا النحو. في الأنقاض، وجدوا آباءً يغمرون أطفالهم، وأحباء يغمرون بعضهم. وهو غمرٌ آخر، ليس غمر الأنقاض، وإنّما غمرُ المادة نفسها، غمرُ المادة المملوءة بالعاطفة التي تجعل منّا بشراً.
مع انتهاء الموجة الأولى من الهزّات، جاء الوقت كي نفكّر ماذا نفعل. في الخارج عاصفة، وداخل الأرض عاصفة. لكن في المنزل عادَ الهدوء النسبي. لذلك، لربما هروباً من عاصفة تحدث داخل الأرض وفوقها، قرّرنا أنا وزوجتي وطفلي البقاءَ في المنزل. فالمنزل لم يتصدّع، فقط أثاثه غمرَ بعضه. هكذا بقينا إلى أن جاء الوقت الروتيني للكتابة في السادسة صباحاً. طفلي كان نائماً، وأنا بدأت أكتب. بالفعل، كتبتُ من السادسة حتّى السابعة وربع عن جريمة القتل التي أفترض حدوثها، وكنتُ علّمت نفسي تجاوُز اللحظة كي أكتب. وصار هذا بعد سنوات الحرب الطويلة جزءاً من تكويني. لا غرابة في أني فكّرت بالكتابة. ليسَ نجاة ممّا يحيط بي، ولا ادّعاءً. بل هذا هو الروتين الذي حاولتُ دائماً التلهّي به عن الفقد المتعدّد.
غمرُ المادة المملوءة بالعاطفة التي تجعل منّا بشراً
أنا عبدُ الروتين، هذه شخصيتي التي خدمتني في الكتابة. وأرى سلوكي في العودة للكتابة فيما الأرض تميد عادياً، لذلك أكتبه هنا. لكنّني لم أستمر، الأرض ذاتها لم تستمر ثابتة تحتنا. هكذا، سمعتُ ضرباتٍ على باب الشقّة، وطلب جاري منّا أن نخرج، إذ لم يبقَ غيرنا في البناء، صحيح أنّ الطوابق العليا لم تتشقّق، لكن الأذى كان كبيراً في الطوابق الأولى. وبعد أيام من الزلزال لا نزال ننتظر قرار اللجنة لنعرف إن كنّا سنعود.
في الخارج كانت الصورة مغايرة عن هدوء الداخل، عدا عن عاصفة الطبيعة؛ رأيتُ عاصفة الناس التي تسيرُ في موتها المؤقّت، الناس خائفة، وابني على كتفي أخذ يسألني عن البيوت، وعن الزلزال الذي افترضَتهُ مخيّلتُه بصورة وحش يأكلُ البيوت. وهذا افتراضٌ لامع، لأنَّ البيوت التي لم تنهر كلّياً، بدا أنَّ وحشاً قضم أجزاءً منها. وهو وحش الطبيعة، أو هكذا ننظر إليها كبشر. لكن الطبيعة نفسها كانت تعيدُ ترتيب ذاتها، وتوطين مادّتها في الأعماق. لربما ما فعلته الأرض لا يعدو كونه الروتين المعتاد لديها. جميعنا كنّا هائمين، نسير في موتنا المؤقّت. جميعُ من نجا كان خائفاً. وفي عينهِ تجد إحساساً آخر، وهو أنَّه يقابل العراء. لا عراء الحرب، وحش الإنسان. وإنّما عراء الزلزال، وحش الطبيعة. الأرض نفسها، لم تعد تحملنا. وعلى مقربة من البحر، انتشرت الشائعات أن يخرج البحر إلينا.
في الحرب كنّا اختبرنا الشائعات، واختبرنا صراع الجهات المختلفة على مصيرنا كبشر. الزلزال لم يحمل جديداً، لكن الجديد هو وعي الناس بوحدتهم، لا أقصد فقط شعورهم بأنّهم بمفردهم يواجهون مصيرهم، بل أقصد تكاتفهم. وقد حملت الأيام التي تلت الزلزال انطباعاً عامّاً يعبرُ السياسة، ويتجاوزها؛ الزلزال تجاوز المعابر وحدود الاشتباك، والرأي السائد بين الناس، بيننا جميعاً، هو وجوب عبور العمل الإنساني للمعابر ولحدود الاشتباك. لكن ليس سرّاً أنّنا لا نعرف كيف يحصل هذا، فعلى الرغم من أنّنا واجهنا الزلزال، وأن العمل الأهلي الإغاثي الذي قام بهِ جيلٌ أنتجته الحرب يدعو للتأمّل والأمل؛ لكنّنا عاجزون عن مواجهة السياسة، ويوجد شعور عام، بأنّنا أقلّ من أن نواجه حقائقها. فالعالم متصارع بشدّة، ولا يوجد فيه صوتٌ للضحية.
ليس بمقدور من نجا ألّا يلحظ عدم نجاة آخرين يعرفهم
المؤكّد، أنّ السوريين أمام الزلزال، كانوا أنفسهم أمام الحرب. لكن هذه المرّة، لم يتركوا لأحد أن يتحدّث بالنيابة عنهم. وتكاتُفهم، لم يترك لأحد أن يدعوهم طوائف، ولم يترك لأحد أن يدعوهم سِوى بجدارتهم للحياة واستحقاقهم لها. ومن غير إرادة منّي تحضرُ الحرب في مقاربتي هذه، لأنّني رأيتُ بيوتاً فوق سكّانها. رأيتُ بيوتاً خذلت أصحابها، بالطريقة ذاتها التي حدثت في سنوات الصراع. رأيتُ تفجّر المادة بالبشر، انهدامها على البشر. ورأيتُ، ولم أكن أحتاج للرؤية في موتي المؤقّت، عجزَ الإنسان، وبأنّه مرمي في يدِ الأقدار.
وفي يد الأقدار كنّا نائمين، ثمّ نهضنا نسير في موتنا المؤقَّت. ونعرف أنّنا إزاء غمرٍ آخر، وهو غمر الامتنان بأنّنا نجونا من الموت تحت الجدران التي حملت وداعتنا دائماً. لكن مقابل هذا، ليس بمقدور من نجا ألّا يلحظ عدم نجاة آخرين يعرفهم، أو سمع عنهم، أو قرأ وشاهد أخبارهم. إذاً، عادت الحرب التي لم تغادر بعد، بصورة أشدّ من تلك التي صنعها الناس هنا، أو وقعوا في غمارها. وثمّة رأي أذكره الآن؛ أنَّ السوريين لم يعرفوا حتّى أن يصنعوا حرباً، بل صنعوا حربَ الآخرين على أرضهم. والآن وأنا أكتب، وأنا ممتنّ لأنّ لدي طاولة وكرسياً وجداراً، وأحاول استعادة الهدوء الذي تتطلّبه الكتابة ومن ثمّ تصنعه، أخالُ أنَّ السوريين بالفعل لم يعرفوا أن يصنعوا حرباً، لأنّهم معاً داخل أرض المحنة وخارجها، يتنادون تنادي العناصر التي تفجّرت داخل المادة، كي يستعيدوا انتماءهم للحياة.
في القرية على مقربة من الغابة، وأنا مع طفلي أخبرني عن أمنيته بأن نصير حيواناتٍ، ثمّ وضّح لي، بأن نصير أرانب أو قططاً أو "كذا"، ثمّ وضّح لي بأنّنا عندما نكون حيوانات سوف نستمتع بوقتنا أكثر. طبعاً قال هذا وأنا أطلب منه أن نتوقّف عند حدود أرضٍ يملكها آخرون، وألّا نتجاوز حدودهم أو نعبر سياجهم. ووعيه كطفل بالسعادة هو وعيه ذاته بالحرية، هو وعيه بأنّ الحيوان حُرّ. فنحن حيوانات مروّضة، وقد روّضتنا حاجاتنا، وروّضتنا أنظمتنا، وروّضتنا الشرائع. وأخيراً، روّضتنا الطبيعة.
* روائي من سورية