مُحيي الدين اللبّاد.. ألبوم الجدارة الذي تتذكره فلسطين

16 نوفمبر 2023
مُحيي اللبّاد في بورتريه لابنه أحمد، حفر على خشب، 1986
+ الخط -

كان مُحيي الدين اللبّاد (1940 - 2010) في سنّ الثالثة عشرة عام 1953، حين نشرت له جريدة "الندوة"، ضمن مجلّة "سندباد" الشهيرة، بياناً مُوجَّهاً للشعوب العربية جاء فيه "إن الوطن الأكبر يُناديكم لتحريره من الظُّلم والاستعمار". 

يشتدُّ عود الفتى وهو يرنو إلى مثلَه الأعلى حسين بيكار (1913 - 2002) أحد أعلام الجيل الثاني من التشكيليّين المصريّين، الذي كان يضطلع برسم مجلّة "سندباد"، ذائعة الصيت، بشعارها "مجلة الأولاد في جميع البلاد".

خمسينيات عارمة كانت تشكّل الوعي المصري بل غالبية ساحقة من الوطن العربي، وكان اللبّاد يشقّ طريقه ليكون عبر نصف قرن من الإنتاج واحداً "من أهم الحداثويين العرب في الفنّ التشكيلي"، كما يصفه إسماعيل ناشف الأستاذ المشارك في برنامج علم الاجتماع وعلم الإنسان بـ"معهد الدوحة للدراسات العليا"، والناقد الأدبي والفنّي، في السيمنار الذي انعقد الخميس الماضي بـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".

تأثّر بنظرة معلّمه حسين بيكار حول تعريب المجال الثقافي

في حرب الإبادة الواقعة على غزة وصُور الجريمة تُبثّ على المُباشر، كما تبثّ صور المقاومة البطولية، بدا الناس مُحتاجين إلى ما يعزّز ذاتهم، فوَجَدت أعمالُ الفنان مساحة لها في مواقع التواصل، ومنها ما يعود إلى عقود مضت مثل "ألفبائية فلسطين". ومع انخراط الملايين في مقاطعة شعبية غير مؤطّرة استعانوا بكاريكاتير له يعود إلى عام 1999، كأنه وُلد للتوّ، حيث الدبّابة تسير ومرضعات وقودها هي الشركات ذاتها التي تدعم الاحتلال اليوم.

كيف تبدو أعمال اللبّاد سهلة الوصول؟ لنترك المُحاضر يُعطينا أول ملمح لبطاقة هذا الفنّان، وهو "رفض الأشكال الفنية النخبوية المتمثّلة باللوحة المسندية، واتجاهه إلى التصوير المطبوع، بغية التواصل مع أوسع فئات المجتمع المصري عبر وسيط هو الطباعة بكتبها ومجلّاتها وملصقاتها".

ومن هذا التقديم نعود مجدّداً إلى تراث فنّاننا، وقد ارتأى المحاضر أن تكون بعنوان "السيرة الإبداعية لمُحيي الدين اللباد"، ونحسب أن الدور التأسيسي للفنان منذ عام 1974، في أول دار نشر عربية مُخصّصة للأطفال، عمل مديراً فنياً لها، وهي "دار الفتى العربي"، جعل اللبّاد ينتج ويعبّر بدافعية إبداعية وعاطفة منحازتين إلى وطنه العربي وإلى فلسطين في قلب هذا الوطن، تأليفاً ورسماً وتصميماً.

محيي الدين اللباد 1
من أعمال محيي الدين اللباد

كانت بيروت عاصمة للثورة الفلسطينية، وفيها قدحت فكرة تأسيس دار نشر، وقفت وراءها شخصيات معروفة في الثورة، وكتّاب وفنانون على رأسهم الفنان الراحل كمال بُلّاطه (1942 - 2019) وبتمويل من رجال أعمال فلسطينيّين.

توجّهت الدار إلى الفئات العمرية من سنّ ما قبل المدرسة حتى الثامنة عشرة، وواصل اللبّاد مشروعه الفنّي تأليفاً ورسماً، وهذه المرّة خارج مدينته القاهرة، ومنخرطاً مباشرة في مدوّنة غزيرة الإنتاج تسعى إلى تشكيل وعي الأجيال اللاحقة بهوية عربية تقدّمية، خَبِر العمل من أجلها منذ الخمسينيات، لكن هذه المرّة في قلب المشروع الثقافي العربي الفلسطيني، بوصفه قضية كُبرى تتناقض بوضوح مع آخر مشروع استعمار استيطاني، كان نصيب العرب أن يزرع كيانه فيه ويشطره إلى شطرين.

وهذا ما يقوله إسماعيل ناشف في كتابه "طفولة حزيران: دار الفتى العربي وأدب المأساة" (2017)، ذلك أن النظرة الأولية على نصوص "دار الفتى العربي"، لا تترك مجالاً للشكّ بأن إحدى الشخصيات الرئيسية الفاعلة فيها تأسيساً وإدارة وطباعة ورسماً وتأليفاً كان محيي الدين اللبّاد، ومن ذلك كُتيّبا "الحروف في العربية" و"ألفبائية فلسطين".

مجلة سندباد
أحد أغلفة مجلة "سندباد"

والكتيّبان مُرتّبان، كما يفيد، حسب الألفباء العربية، حيث لكلّ حرف منها هنالك مثال على شكل كلمة، ففي "الحروف في العربية"، لكلّ حرف أكثر من كلمة، وذلك لتوضيح التغيير في شكله بحسب موقعه في الكلمة في البداية، أو الوسط، أو نهاية الكلمة، أما في "ألفبائية فلسطين" فلكلّ حرف كلمة واحدة مرتبطة بثقافة المقاومة الفلسطينية وإرثها وتراثها.

من هُنا، ورغم أن إسماعيل ناشف (1967) يقدّم خلاصة دراسة مطوّلة تزيد على 120 صفحة، تعود إلى البيئة الحاضنة في الربع الأول من القرن العشرين قبل ولادة هذا الفنان، إلا أنه يُمسك باللحظة المفتاحية التي وفّرت له في طفولته الاطّلاع الأوّلي على كُتب أدب أطفال صنعها اللبّاد، وشكّلت رافداً أساسياً لـ"من ثقافتنا وذاكرتنا البصرية في فلسطين".

ثم تبرز أهمية اللبّاد بشكل أوضح مع دراسة أدب الأطفال، وهو مجال واسع مثل بحر من المياه العميقة والسطحية، كان هذا الرسّام والمؤلّف والمنظّر الفنّي علامةً ينظر إليها ناشف من خلال دراسته نظرة المُقرّ بالعرفان والتقدير المستحقّ.

مدوّنة بصرية تشكّلت على أساس فهم حداثي للتشكيل

تتناول الدراسة ثلاث دوائر تُفسّر مدوّنة الفنّان، وهي: البُنية الداخلية للعمل الفني والأدبي، والمراحل العمرية لسيرته ومميّزات كل واحدة، واللحظة المحدّدة كشرط اجتماعي تاريخي جعلت اللبّاد ينتج بهذا المنحى.

ويُخبرنا بأن أول كتاب ألفه ورسمه بعنوان "الفار الضاحك"، كان ضمن سلسلة كتب "الكتاب العجيب"، وقد صدرت عن "دار المعارف" المصرية عام 1964. أما في عقد الستينيات فإن اللبّاد سيكون من أبرز المساهمين في تشكيل البيئة البصرية الفكرية المواجهة لغزو ثقافي أميركي عبر مجلّات مثل "ميكي ماوس"، و"سوبرمان"، فكانت مجلّة "كروان" التي اضطلع اللبّاد بإدارة تحريرها وقدّمت ثقافة بصرية تقدّمية، وهي لم تكُن مدعومة من الدولة ولم تستمرّ أكثر من سنة، ومع ذلك كان لها أثر طويل الأمد لمن واصلوا أو أتوا بعد انقضاء هذه التجربة.

ولم يستفض ناشف في تبيان ظروف توقّف المجلّة عام 1964، علماً بأن البيئة العروبية والناصرية كانت تكتسح الفضاء العام وتفرد مساحات واسعة للإنتاج الذي يخدم هذه التوجّهات. وفي هذه السنة التي بدأت وتوقّفت فيها المجلّة كان اللبّاد في مطلع عشرينيات عمره، وقادماً من مجلة "سندباد" التي أسهمت في شخصيته، ومنهياً دراسته الأكاديمية.

محيي الدين اللباد 2
من أعمال محيي الدين اللباد

فمنذ عام 1953 بدأ اللبّاد بمراسلة هذه المجلّة "الحداثوية بامتياز"، والتي أشرفت عليها نخبة من المثقّفين عملوا على تحديث الثقافة الفنية في مصر إضافة الى تمصير وتعريب المجال الثقافي. ويلاحظ إسماعيل ناشف هذا الخضمّ، من خلال رؤية الأجانب لمصر قبل ثورة 23 تموز/ يوليو، بأنها كانت "كوزموبوليتانية"، بينما بعدها تنحو إلى التجانُس وهذا شيء سيِّئ وفق منظورهم، بينما كانت العجلة بقيادة حسين بيكار المدير الفنّي للمجلّة تضطلع بجذرية بهذا التمصير، وفي ذلك يرى ناشف أن علاقة بيكار واللبّاد الفتى وقتذاك كانت علاقة الأسطى والمتدرّب.

وهنا ستتشكّل لدى الفنان تحديدات ترسم طريقه، إن كان بالعزوف عن الشكل الكلاسيكي للوحة، أو الانتماء إلى الحداثة والهوية المصرية وكذلك التراث العربي والإسلامي.

وبما هي لحظة عصيبة نمرّ بها، اليوم، في حرب الإبادة على غزة فإن السجال حول "من نحن؟"، و"ما الذي نريد؟"، و"ما ينبغي وما لا ينبغي في الماضي والحاضر وفي المستقبل؟"، يبقى يتسرّب كما يتسرّب الماء حتى من صخرة صمّاء.

ممّا نعرفه بشأن مشروع "الفتى العربي" الذي استمرّ من 1974 حتى 1994، هو السجال الضروري حول الإطار الذي يقترح لعالم الطفل والفتى والشابّ، هل هو تعبوي هوياتي ضروري أم منفتح على الدلالات التي قد تجعل من الضروري الآن مستثنىً في الغد؟ وفي ذلك نستذكر انحياز الفنان التشكيلي كمال بُلّاطه، المدير الفنّي المؤسِّس الذي رسم الخطوط العريضة للدار، إلى ضرورة جعل الصورة والكلمة ذات طابع إنساني دون أن يضغط عليها التسييس.

والذي تطرّق إليه ناشف من هذه المساجلات هو ما وقع بين القاصّ زكريا تامر (1931) واللبّاد، فيقول: "إنه خلاف جدّي وطويل المدى بين الاثنين، إذ كان تامر يميل الى أن العمل الفني والأدبي يجب أن يحمل نوعاً من الوعظ الأخلاقي، وكان اللبّاد يرى وجوب معالجة الشحنة الأخلاقية بطريقة إبداعية مختلفة".

نذكر، هنا، أن هذا كان يدور بينما واصل الاثنان إنجاز عشرات الأعمال معاً، ومن أشهرها كتاب "البيت" الذي ظهر في نسخة أُخرى على شكل مُلصق.

وفي تأليفه عن الفنّ والكتابة والتصميم، تتطرّق دراسة ناشف إلى مداخلة مفاهيمية حول تاريخ الفنون البصرية في مصر والعالم العربي، قدّمها الفنّان في كتابه "نظر"، الذي شكّل حصيلة أعمدته الأسبوعية في مجلة "صباح الخير"، منذ عام 1985، جمعها على شكل كتاب يقول في مقدّمته: "إنه ليس كتاباً بالضبط بل يمكن تسميته ألبوماً".

يقلّب اللبّاد ألبوم الحياة منذ سنّ الخامسة، كما يرصد ناشف الذي يُلاحق كلّ تفصيلة في حياة فنّانه، وهو، كما هو معروف، لم يقدّم لنا سيرة ذاتية تقليدية. وبالتالي يقول إنه، هنا، ليس أمام قراءة مباشرة بل تناظُرية تكوّنت من متابعته للعديد من المقابلات وخصوصاً المقابلات التحريرية، أي التي كان يُجيب فيها اللبّاد عن أسئلة مُرسلة إليه، فيكون كما لو أنه يؤلّف إطلالات على السيرة بحسب ما تُتيحه الأسئلة.

ففي سنّ الخامسة، انجذب الفنّان سليل فئة الأفندية التي أفرزها التعليم الحديث في مصر إلى الرسوم المطبوعة في الصحف والمجلّات والكتب وإعلانات السينما والمطبوعة بالحجر، وطوابع البريد. وفي السابعة بدأ شغفه بالكتب والمجلّات والرسوم والصور والتصميم، وعبرت أعماله التأليفية والبصرية أزماناً لاحقة.

ها نحن نقلّب ألبوم محيي الدين اللبّاد، لا لشيء سوى جدارته الفنّية ولغته العربية التي يُمكن أن تُترجم إلى لُغات العالم فقط لأن صاحبنا كان يعي ذلك ويحياه في صحوه ونومه.

المساهمون